كثيرة هي الأفلام التي تخرج من ضلوع الروايات، العربية منها وغير العربية، كما رواية "باب الشمس" للروائي اللبناني الياس خوري، التي شارك خوري في كتابة سيناريو فيلمها كل من المخرجين، محمدسويد ويسري نصرالله. هكذا درجت العادة، أن تكون الرواية رافداً من روافد السينما. لكنّ محمد سويد، في روايته الأولى "كباريه سعاد" (الصادرة حديثاً عن "دار الآداب" بيروت) قلب الطاولة بأن كتب رواية خارجة من ضلوع السينما، فجعل من السينما رافداً لروايته، ليست الرافد الوحيد، إنّما هي أحد أهم روافد القصة التي تدور أحداثها في بيروت الحرب. والحرب هنا ليست القذائف والرشاشات والشهداء والصور الملتصقة بالجدران، إنها الحرب التي تمر بين الحروف مثل فيلم سينمائي طويل. الحرب كما يراها سويد بعيني كاميراه.
والسينما التي ترفد رواية سويد ليست سينما الفنون البصرية. إنّها أقرب ما تكون إلى صورة السينما في ذاكرته ومخيلته. فهو ولد في السنة التي ولدت فيها سعاد حسني، في العام 1959. وقبل 9 أعوام من شروعه في كتابة سيرته، هجرت سعاد السينما وانكفأت. وهو يؤرخ لأصدقائه في الرواية بأفلام شاهدها معهم، أو تعرف إليهم، ويروي أحداثاً متقطعة من حياته كما هي متقطعة الفترات التي شاهد فيها أفلاماً عالقة بذاكرته.
ويفرز سويد أظفار هذه الذاكرة السينمائية في الأحداث التاريخية العامة التي يحيلها إلى علاقات تربطه، هو، بالأشياء. فيقول عن الحرب: "أعللها تارة باغتيال معروف سعد، وتارة أخرى بمجزرة البوسطة في عين الرمانة. في تقديري أنّ الحياء يمنع مؤرخيها من إحالتها على انتصاب شمس البارودي بلوحتها الإعلانية الخشبية، حيث وقفت بكال ساقيها.." (ص. 67-68). الحرب بدأت هكذا إذاً. بدأت في السينما. واستمرت في السينما. وهو يكتبها اليوم بالسينما، لغة ومضموناً.
ويقول في مكان آخر، أنّه استمنى للمرة الأولى بعد مشاهدة فيلم "فوكسي براون" لـ"معبودة مناماتي بام غرير". الحرب ليست الشريط الوحيد الذي تكر أحداثه في بكرات. طفولته يقيسها بالسينما، كذلك شبابه والجنس الذي مارسه مع دنيا وسيسيل.
نحن أمام مهووس بالسينما، يريد أن يجعل من الرواية حقلاً آخر من حقول السينما وعلومها البصرية. يريد أن يدخل السينما إلى داخل الرواية، أو ربما فعل ذلك بتأثير من ثقافته وحياته السينمائيتين. وهو يستعمل لذلك الهدف نوعاً جديداً من الكتابة، المتأرجحة بين الجد والهزل، مثل قوله: "يكفيني ما ورثته من فرويد وعقدة أوديب وأديبة وذريتهما" (ص. 34)، و"فليحمد جاك شيراك ربه بكرة وأصيلاً على شطب دوره من قائمة أبطال الفيلم (كان يقوم بتصويره) وممثليه المساندين" (ص. 64). كأنّه بتلك الكتابة التأجرحة ينقل ارتباكه وتأرجحه بين رواية الأحداث وسردها، وبين الكتابة "عن الأحداث" ومقارنتها بأحداث أخرى تربط بالسينما في أبطالها وأماكنها وأزمانها.
وهو يسترسل في نمطه الكتابي الجديد، لكن الدافع للقراءة، ربطه لحدثين أحدهما بالآخر بطريقة غير مألوفة، كأن يقول: "سينما الحمرا" افتتحت في 6 تشرين من العام 1957، ولا علاقة لها بذكرى 6 أكتوبر. نقطة على السطر. أو كأن يعود إلى أسلحة الدمار الشامل العراقية التي لم يظهر لها أثر، في معرض حديثه عن جاك شيراك، الذي يريد إشراكه في فيلمه الذي لم ينفذ. ما يجعل قراءته أكثر سهولة، وقارئه أكثر اندفاعاً للاستمرار في القراءة. وإذا كان الخيار بين مشاهدة فيلم أو السهر قبالة التلفزيون وبين قراءة كتاب، غالبا ما تكون الغلبة لصورة على الحرف، لكن مع سويد ينتصر الحرف لأنه يحمل الصورة السينمائية وليس التجريدية، إضافة إلى الحرف.
يلعب سويد باللغة كأنه ينتقل بالكاميرا من زاوية إلى زاوية حينا، وبـflash back أحيانا أخرى. يمكن القول أنّ روايته لم تنجُ من المخرج السينمائي الذي بداخله، ولا من الطريقة التي يريد أن يسرد بها الحوادث لو كانت الكاميرا هي أداته بدلاً من الحرف والكلمة. وفي انتقاله هذا مزيج من "الشقاوة" الشخصية ومن عدم قدرته، كـ"ملك السيكس"، على الكتابة كما يفترض بها أن تكون. كما أنّه لم يحي حياة كما يفترض برجل عادي أن يحيا في ظروف عادية ومع أناس عاديين. إنّه يكتب حياته، يفلشها على الورق، و"ينشر غسيله الوسخ"، بحسبه.
وفي نشره هذا الغسيل تكمل المتعة الخالصة، وليس في الكتابة بأسلوب منمق عن حب يتوهج على خط التماس. وهو يسحب اللغة من ألسنتنا. لغتة حية وليست لغة الكتابة، كما هي الكتابة خارج روايته.
وإذ تخرج الحرب من عيني كاميرا سويد، فإنها تملأ ثقوباً في ذاكرتنا، نحن أطفال الحرب الذين لا نذكر منها إلاّ الملجأ والرعب في عيون من هم حولنا. كأن يعرفنا على سينما اندثرت حتى قبل أن نولد، وسار هو إلى جانبها قبل أن نتعم المشي. وهو بذلك يستبق "عجز الماضي عن الحد من استحالة الناس صوراً وكلمات تنتظر من يؤويها ويقيها شر الزوال" (ص. 101). إنّه يؤوي الكلمات والأحداث لنتعرف عليها، نحن من لم نعش الحرب ولم نعرف من صورها إلا القليل القليل.
في أماكن أخرى، يسرد البطل أحداثاً غير متفق عليها تاريخياً، من دون أن يبقى على مسافة "روائية" من شخصياته. كأن يقول أنّه رمى رشاشه في الزبالة قبيل دخول القوات الإسرائيلية، كما فعل الجميع. لا شيء يؤكد أن ذلك ما فعله الجميع. إنّه يقول ما يريد، انطلاقاً من أنّه يروي ما في رأسه وما يشعر به لا ما حصل فعلا.
وهو إلى تأريخه للأحداث بانتقائية، يؤرخ للغة أيضاً، ما قوله "شو جاب الطز للمرحبا" (ص. 86). أو "مسكينة سعاد، ماتت غلبانة" (ص. 109)، مستخدما اللهجة المصرية، أو "god damn it" (ص.60)، للتعبير عن غضبه أثناء الكتابة. كما تغدو اللغة في روايته للأحداث شبيهة بالأحداث نفسها، كما حين يصف نفسه بـ"ملك السيكس والكورنفليكس".
لسنا هنا أمام راوٍ يلقي القصة من فوق، نحن أمام متحدث يمد جسراً لغوياً مع القراء كلهم، وليس مع نخبتهم. كأن يقول عن جعفر زورو، أحد شخصيات قصته: انطونيو زورو أو جعفر بانديراس.