هذه الحلقة هي الثانية من شهادة سجين في سجن رومية للأحداث، وهي تتحدث عن المبادلات التجارية والعلاقات السوقية التي تحكم عالم السجن.
لم يكن السماح بفتح أبواب الزنازين يتعدى التنزه والخروج من طبقة الأحداث الأخيرة في أحد مباني سجن رومية، المؤلف من ثلاث طبقات، إلا لمن يحظى بـ"مواجهة"، أي أن يزوره أحد ما من خارج السجن. وكان يسمح لنا بزيارة المكتبة لمرة واحدة في الأسبوع، كذلك صالة الكمبيوتر. لكن هذا النوع من الترفيه الحذر لا يخرج هذا المجتمع الصغير من بدائيته. فمع تزايد ثروتي المنقولة، التي كانت تغدقها عليّ أمي لئلا أشعر بفارق كبير بين السجن وخارجه، راحت أسهمي تتزايد. في اليوم الأوّل لم يأمر "الشاويش" بأن أنام في الخارج. كان ذلك جزءاً منسياً من شهامة عربية قديمة في نفس "الشاويش". فأكرمت تكريم ضيف عزيز بالنوم على سرير في ليلتي الأولى معه. وبعد أن أتتني أمي بالثروة في اليوم الثاني، عرفت الطريقة إلى قلب هذا المارد "الحدث" من خلال بطنه. لكنني كنت حذراً لئلا أجعله يطمع بي. بل حاولت أن أتعامل معه بندية، ونجحت. وكان ما أعطيه إياه لا يزيد عمّا أعطيه لغيره ممن باتوا الأقرب إلي، إن لم يصبحوا أصدقائي. وبذلك استوطنت على السرير المحاذي لسرير "الشاويش" طوال مدة وجودي في السجن، وجعلت من السرير طاولة لأغراضي نهاراً وفراشاً لنومي ليلاً. وكنت ألعب دور رأسمالي في عالم بدأت أعي أنّه لا يتسع إلاّ للأقوياء، ولا مكان فيها سوى لإثنين: إما القوي أو الضعيف. وقررت أن أكون قوياً، بأي طريقة. كنت كمن يعيش في قصة غريبة، فأحاول أن ألعب فيها دور القوي، خائفاً من أن تكون قوتي شريرة. وذاع صيتي إلى زنازين مجاورة، فكان بعض "الشاويشية" يأتون إليّ ليقولوا: "إذا تعرضت لأيّ إزعاج فعليك ان تخبرني فقط وسترى"، قبل أن يضيف: "هل تستطيع أن تعيرني قنينة مياه"، أو "أعطني خياراً وبندورة"، أو "هل لديك موز".
موزاييك بشري
أحد زملاء الزنزانة وكان عمره 16 عاماً، روى لنا أنّه دخل إلى السجن بدعوى إغواء قاصر. وشرط الإفراج عنه هو أن يتزوجها. كان حاول الإنتحار بقطع شرايين يده التي كانت تحمل آثار هذه المحاولة جرحاً غائراً حتى حدود عظامه. لكن محاولته باءت بالفشل. نقل من المستشفى إلى السجن. ولم تمضِ أيام حتى أعلن موافقته على الزواج بها، هو الآتي من عكار مثل كثيرين من نزلاء هذه الزنزانة، فيما القسم الأكبر منهم كان سوري الجنسية. أما العراقي الوحيد فدخل البلاد "بصورة غير شرعية"، هرباً من العراق حيث قتل زوجة أبيه على ما قال لنا. وهناك سجين ثالث دخل السجن بعد سرقة "قنينة غاز" فارغة، ثمنها لا يتعدى عشرة دولارات، كان ينوي صرفها لتمضية يوم بحري على شاطئ مدينة صور.
هذا الموزاييك البشري لم يكن يسمح لأي نوع من أنواع التفاهم بين "الأحداث" سوى لغة القوة. فكان القوي يفرض لنفسه سلطة معينة، وعلى الأقل حدوداً لا يسمح لأحد أن يتخطاها. وكنت أنا ممن رسموا خطاً من هذه الخطوط عبر الثروة العينية التي أهدتني إياها أمي، وليس عبر قوة جسدي النحيل. إذ كان الماء العذب النقي يغري "الشاويش" بالمغامرة عبر إخراج اختراعه المحبب واستعماله. هذا الاختراع هو عبارة عن سخان كهربائي، صنعه بواسطة خشبة تفصل بين برغيين كبيرين انتزعهما من أحد الأسرّة. وبوضع شريط كهربائي على البرغي الأوّل، وثانٍ على البرغي الثاني كان يحصل على سخان كهربائي نصنع شاياً نظيفاً بواسطته. كانت هذه العملية تمثل ذروة المغامرة والتحدي، إذ يمنع إدخال أيّ من أنواع الأدوات الكهربائية إلى الزنازين ما عدا التلفزيون المعلّق في أعلى كلّ غرفة، حيث يصعب أن يطاله السجناء. وكان كوب الشاي يباع بخمس سجائر. والسيجارة هي العملة الصعبة في السجن. فبوسعك أن تشتري كنزة بعلبة سجائر. أما ثمن "البوط" فيزيد عن العلبتين. فيما يتراوح ثمن البنطال بين نصف علبة وعلبة. والأسعار تخضع لقاعدة العرض والطلب. وكنت أنا ممن يشترون الأصدقاء بمياهه وطعامه.
كانت إدارة السجن توزع علينا شفرات حلاقة لذقوننا، وكنا نحلق من دون مرآة. وكانت المرآة هي الاختراع الثاني الذي علمني السجن أنّه ليس عظيماً. فقد كنا نضع قماشة سوداء وراء زجاج النافذة، فيعكس الزجاج الصورة بعض الشيء. وطوال المدة التي قضيتها هناك وهي تناهز الشهر، لم يحصل واحدنا سوى على شفرة واحدة. وقد قال لي بعض ممن سبقوني أنّها تعد من النوع الرديء جداً. واكتشفت بعد خروجي من السجن أنّ ثمنها لا يتعدى 250 ليرة.
تسمح إدارة السجن للمحكومين بمدد طويلة بأن يعملوا في مصانع حرفية داخل السجن لقاء أجور معقولة، لكنها تبقى أقل من تلك المعمول بها خارج السجن. وغالباً ما يستعمل بعض "الأحداث – الأجراء" أجرة أعمالهم لشراء التبغ. فيما يستعملها بعضهم الآخر لإعالة عائلتهم الفقيرة، التي لا يوجد من يعيلها خارج السجن.
الأجسام المستباحة
أوّل ما يفقده سجين رومية هو العزلة، هذا الشيء الذي نستطيع من خلاله أن نعيد تجميع بعض الأفكار أو أن نعيد رمي بعض الأشياء إلى خارج أنفسنا وذاكرتنا. ويبدأ السجن بالضرب على حواف هذه الذوات لتجويفها. فذات السجين غير موجودة، ولا خصوصية لأي شيء يقوم به. الحمام مثلا، الذي كنا نشترك فيه، نحن الـ28، كان بلا باب. كما كان الجدول الذي تفرضه علينا إدارة السجن مكتملاً باستمرار، من زيارة المكتبة أو صالة الكمبيوتر، مروراً بالمواجهات (زيارات الأهل)، وصولاً إلى تنظيف الزنازين والمشاركة في الغسيل والطبخ، إضافة إلى غيرها من الأعمال التي لا قدرة لإدارة السجن على تحمل تكاليفها، فتسندها إلى المسجونين. هذا ما جعل الاستحمام اليومي، الذي تفرضه علينا قوانين السجن، مشتركاً. الأمر الذي جعل كلاً منّا عرضة لأنظار 27 شخصاً أثناء استحمامه. الخصوصية تبدو ترفاً في السجن، فلا يحصل عليها إلاّ "الشاويش" الذي يتصرف كأنّه سلطان الغرفة وحاكمها المطلق. فيستحم وحده بحراسة أحد "زلمه".
والسلطان لا بدّ له من أن يحظى ببعض الجواري. وأذكر، إذا لم تخن ذاكرتي، أنّ "شاويش" غرفتنا كان ينعم ببعض منه. فكما هي الحال في معظم الغرف، كانت غرفتنا تضم بعض الأطفال ممن هم دون الرابعة عشرة وحتى ممن هم دون العاشرة، وكان هؤلاء الأطفال بحاجة للحماية. وفي السجن لا شيء مجاني. ولكي يحمي أحد ما ظهرك، لا بد من أن تدفع له. وعملة السجن هي السجائر إذا وجدت، والطعام والشراب إذا وجدا أيضاً، والآتيان من مطابخ النسوة اللواتي تزرن السجن في أوقات المواجهات. ومن لا يملك هذا أو ذاك، فعليه أن يكون قوياً وقادراً على الدفاع عن نفسه، أو عرضة لأي طارئ، أو أنّه يجب أن يكون من "حريم السلطان" كما كان حال أحد الأطفال في غرفة الدخول في شهر آب من عام 2001.
سلطان النوم
كان موعد النوم هو الساعة الثامنة مساء. ففي هذا الموعد تطفأ الأضواء، فتغرق الزنازين في ظلام تام. هذا ما يعطّل قدرة الكاميرات المثبتة في كل زنزانة على التصوير. عندها يبدأ الشبان والمراهقون السبعة ألعابهم, فغرفة الدخول لم تكن تتسع سوى لثمانية أسرة تقسم على طبقتين أرضية وعليا، فينام ثمانية سجناء داخل الغرفة، فيما يخرج عشرون من غرفتنا إلى الممر العريض، حيث ينامون متجاورين مع عشرات من سجناء الزنازين المجاورة، في برد العراء الجبلي في رومية. حينها كان "الشاويش" يروح يتحرش بأحد الأطفال الذين يسمح لهم بالنوم على السرير مداورة. يساعده في هذه العملية إثنان من "زلمه". لم يكن الطفل يعارض هذه التحرشات، بل كان يتظاهر بذلك لحين من الوقت، وكنت أنام كل يوم مستمعاً إلى أصواتهم يتضاحكون ويتحدثون حتى ساعة متأخرة من الليل.
وفي الصباح، كانت الأوامر هي أن نستيقظ في تمام السادسة، ومن لا يستيقظ يضرب بالعصا إلى أن يمتثل للأوامر، وحينها تبدأ حفلة التنظيف اليومية التي لا تنتهي قبل موعد الغداء. وبعد الغداء، يرتاح السجناء لبعض الوقت، ثم يجبرون على الاستحمام، ثم يسمح لهم بلعب الورق أو غيرها من الألعاب. لكن النوم كان ممنوعاً إلا لـ"الشاويش". والأخير كان يعين حارساً قبل أن ينام عصراً، ليمنع البقية من النوم. كان النوم حكراً على عيونه، التي تسهر مع المحظيين طوال الليل، وتنام هانئة بعد الظهر، مطمئنة إلى أنّ الجميع يحسدونها لقدرتها على الإغماض من دون بقية العيون الناعسة.
سماء الطفولة البعيدة
كان السجن عقابا مزدوجاً. فهو منعني من الخروج من بين جدرانه الأربعة كما يفترض به أن يفعل، وقيد حرية تنقلي. لكنه أضاف إلى هذا العقاب عقاباً أشد قسوة، إذ كان من المبكر أن أعيش تجربة الغابة في ذلك العمر الصغير، لكنه علمني أموراً كان من الصعب أن أتعلمها، لو لم أدخله. علمني أن لا أحد يستطيع أن يكون قوياً وعادلاً في الوقت نفسه. فالقوة في السجن هي رديف الظلم والتعدي على الآخرين. وإذا كنت قويا ومسالماً، فهذا يعني أنك إما جبان، أو ضعيف. أما التواصل مع الأقوياء فلا يكون إلا بطرق ثلاث. الأولى هي أن يكون الشخص قوياً ونداً للقوي، والثانية هي أن يكون "كلب الأمير أمير"، والطريقة الثالثة هي أن تشتري قوة القوي، وذلك لا يكون إلا مؤقتاً، إلى أن يزول مفعول ما تدفعه من مواد عينية.
في السجن، كبرت فجأة. زاد وزني. قلّ اعتمادي على الآخرين. أصبحت أقرب إلى الرجولة مني إلى طفولة لا زالت تراوغ مراهقتي. كنت أستيقظ كل صباح لأرى السماء من شباك قريب إلى سرير"ي". كانت السماء تشبه طفولتي. لم أنظر يوماً إلى السماء كما نظرت إليها في سجني. كانت زرقاء وجميلة وممتدة وبعيدة وحلوة ورقيقة.
كانت كل الأشياء التي افتقدتها في تلك الزحمة الرجولية ذات الرائحة العفنة، في ذلك الركام الذكوري الذي كان يصيبني بالغثيان ويشعرني بالغربة عن الأماكن الأليفة التي كان يجب أن أكون فيها لو لم أصعد إلى السيارة في تلك الليلة.
وفي السجن قرأت. قرأت مؤلفات ميخائيل نعيمة ومؤلفات إملي نصرالله كلها. كأنني كنت أسترجع كتب القراءة التي لازمت طفولتي أثناء غوصي في حكايات هذين الكاتبين. كما قرأت "هاملت" لشكسبير و"أنا وهو" و"الحقارة" لألبتو مورافيا. كنت أسترجع بعضاً من أحلامي الجنسية المكبوتة في السجن، أثناء قراءتي هذين الكتابين الطويلين. كنت أقرأ بمعدل خمس ساعات يومياً. وكان ذلك الوقت غالي الثمن، إذ كنت أدفع للشاويش ثمن "عطالتي" وعدم مشاركتي في حفلات التنظيف اليومية. كما كنت أدفع لبعض الـ"أصدقاء" ثمن العمل نيابة عني إذا ما أغضبت الشاويش بكلمة أو حركة أو إجابة لا تليق بمقامه. قرأت كذلك أجزاء من القرآن، لا تقرباً من الله كما اعتقد بعض الزملاء من المسجونين، بل طلباً للعلم ولزيادة استثماري ذلك الوقت الذي أقضيه في السجن. باختصار، قررت أن أخرج من السجن أكثر ثقافة وخبرة، وألا أقتل أوقاتي بأن أمررها كيفما اتفق.
الخروج
يوم عرفت أنّ أهلي دفعوا "ديّة" الرجل الذي توفى إثر الحادثة، بدأت أتصرف كأنني سائح في مكان سأتركه بعد قليل، قبل أن أكتفي من زيارتي له. أصبح السجن نزهة لا أريد مغادرتها قبل أن أرى الأشياء كما لم أرها عندما كنت متهماً خائفاً من عقاب قد يصل حدود القتل شنقاً أو المكوث سنوات طويلة بين جدران أربعة ومع رجال يدعون أنهم أحداث.
توقفت عن القراءة يومها ورحت أتحدث إلى زملائي بحرية أكبر. وبدأت أسألهم عن أسباب قيامهم بجرائمهم. وأخذ البعض يتقرب مني لـ"أورثه" ما سأتركه من طعام ومن ثروة مائية ومن ثياب و"شامبو" وصابون، فيما راح البعض يطلب مني إيصال رسائل إلى أقرباء توقفوا عن زيارتهم منذ شهور أو سنوات طويلة. منهم واحد كتب رسالة مليئة برسم قلوب تخترقها أسهم وتتطاير من جنباتها الدماء. وكتب فيها بلغة شديدة الركاكة عبارات تعبر عن حبه واشتياقه، وطلب من حبيبته في ختام رسالته أن تنتظره وأن تطلب من أهله أن يزوروه وأن يأتوه بعلب سجائر.
آخر أعطاني رقم هاتف عائلته لأطلب من أمه أن تزوره. وثالث أعطاني رقم هاتفه لأنه سيخرج قريباً ويريد لقائي لنصير أصدقاء ونتذكر الأيام التي قضيناها معاً في غرفة واحدة.
ويوم خروجي وزعت أغراضي وثروتي على الجميع، حتى على أولئك الذين لم يطلبوا، بسبب قلة احتكاكي بهم، أو لأنهم ليسوا في مواقع قوة تسمح لهم بهكذا طلبات.
لكني، ما إن وطأت قدمي العالم خارج حدود السجن، حتى أصابتني حالة من الإحباط. وقررت أن أقوم بشيء أرمي به، وبسرعة كبيرة، كل ما يذكرني بهذه الأيام التي كنت فيها غريباً عن نفسي. كنت أريد أن أفعل شيئاً أقتنع بعده أنني شفيت مما أصابني. رميت الأوراق التي أعطاني إياها أصدقائي، ودخلت سيارة خالي الذي كان ينتظرني مع أمي وزوج أختي. رحت أراقب السماء التي لم تكن كما تركتها عالقة في شباك غرفة السجن. عرفت حينها أنني أبداً لن أراها جميلة كما رأيتها هناك. وأنني لن أعود الشخص الذي تركته واقفاً عند ذلك الشباك.
لاحقاً، وبعد مرور السنة الأولى، والثانية من بعدها، عرفت أنني لم أصبح ما أنا عليه إلا نتيجة ما صرته في السجن، وأنني، وإذ تغيرت قليلاً أو كثيراً بعد أن خرجته فلأنني تغيرت قليلاً أو كثيراً هناك.