إذا كان الحزب الشيوعي هو من أطلق "جمّول"، على يدي جورج حاوي ومحسن ابرهيم، فإنّ الذي أطلق الرصاص على "جمّول" معروف، والذين قتلوا قيادات المقاومة الوطنية الحمراء معروفين بالإسم ورقم السجّل.
على مشارف التراجع عن خطأ الثمانينات والتسعينات، يمعن نصر الله في خطأ الألفية الثالثة: الإستفراد في الساحة الشيعية، والجنوبية تحديدا. كلّ احتكار له فاتورة. الفاتورة المذهبية لاحتكار سلاح المقاومة يحصدها اليوم "حزب الله" بسبب استفراده بالمقاومة. كلّ من نهاه عن ذلك حينها إتُّهِمَ بالعمالة لإسرائيل. الأمر نفسه يعيده اليوم، يحاول احتكار بيئة الجنوب والبيئة الحاضنة للمقاومة. والتاريخ أثبت أنّ المقاومين ليسوا بالضرورة أهلا للحكم والسياسة، على الأقلّ ليس وحدهم.
لا ترتكبوا الخطأ نفسه مرّتين. لا تمارسوا التصفية داخل الطائفة، بعدما سلختم المقاومة عن "الوطن" وحشرتوها في زاوية "الضاحية" و"الجنوب". لا تبدّدوا التنوّع الذي قد يحميكم في الآتي من الأيّام.
كان محزنا فرح بعض الشيوعيين اللبنانيين، على الفايسبوك، بدعوة الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصر الله إلى إشراكهم في طاولة الحوار حول الإستراتيجية الدفاعية. وكان محزنا ترحيب الأمين العام للحزب الشيوعي خالد حدادة بهذه الدعوة. هو الذي كان يسمّي طاولة الحوار "كذبة ومضيعة للوقت" في السنوات الفائتة – عودوا إلى تصريحاته – صارت دعوة نصر الله "مهمة رغم تأخّرها"، في اليوم التالي من كلام نصر الله. كأنّ الطاولة كان ينقصها حدادة لتصير مهمّة.
الأمين العام المعمّم نصب فخّا للأمين العام الأحمر، حين قال إنّ المقاومة لها تاريخ شيوعيّ وناصريّ وبعثيّ وإسلاميّ، ذاكرا "الجماعة الإسلامية" و"حركة التوحيد" و"التنظيم الشعبي الناصري" وغيرها من التنظيمات. وحده حدادة اشترى بذّة جديدة وجلس ينتظر العيد الحواريّ. فورا، في غرف الوتوات العالية، إجتمع القائد الأحمر بقيادات حزبه الشيوعي، وكانت النتيجة إتهامات ببيع أسلحة وبالتذلّل للطائفيين من أجل توظيف نجله واتهامات بين أعضاء قياديين بالتحرّش الجنسي بموظفات إذاعة "صوت الشعب"، وفضائح أخرى جمعها علاء المولى في مقالة منشورة على صفحات "مختار".
الأسوأ أنّ حدادة، الذي يفترض أنّه ممتلىء بالنقد الذاتي، نسي تذكير نصر الله بأنّ "حزب الله" هو من أقصى الشيوعيين عن المقاومة، وعن الإستراتيجية الدفاعية إستطرادا، وليست قوى 14 آذار من تقصيهم عن الحوار حولها اليوم. المقاومة التي بدأ "حزب الله" يحتكرها منذ منتصف الثمانينات إلى أن صارت أشباحًا تلك الأحزاب التي أطلقتها في العام 1982، قبل ولادة "حزب الله".
وإذا كان الحزب الشيوعي هو من أطلق "جمّول"، على يدي جورج حاوي ومحسن ابرهيم، فإنّ الذي أطلق الرصاص على "جمّول" معروف، والذين قتلوا قيادات المقاومة الوطنية الحمراء معروفين بالإسم ورقم السجّل.
هذا ليس النقاش اليوم، النقاش هو في أنّ نصر الله لم يدعُ الحزب الشيوعيّ إلى طاولة الحوار إلا بعدما تأكّد من أنّ هذا الحزب ما عاد موجودا على الأرض، وما عاد قادرا على منافسته، وبعدما صار في أمسّ الحاجة إلى إخراج المقاومة من صورتها ومضمونها الشيعيين. إستدعى العلمانيين الشيوعيين مرغما لا بطلا، واستدعى السنّة من "الجماعة الإسلامية" و"حركة التوحيد".
في شباط 1985 نظم "حزب الله" تظاهرة في صيدا بعد تحريرها، كانت ضدّ الشيوعيين، وكانت هتافاتها تشتم الشيوعيين "الكفّار"، وترفض صفة "الوطنية" عن المقاومة وتطالب بتسميتها "المقاومة الإسلامية" وليس "الوطنية". وكانت التظاهرة مفصلية في تاريخ المدينة، واستنفرت العصب الصيداوي الوطني يومها، ومصطفى سعد كان أبرز المستائين. وكان الشيخ ماهر حمّود أبرز فاتحي بوّابات صيدا أمام هذه التظاهرة. اليوم يدفع الحزب ثمن هذه التظاهرة، ومن صيدا تحديدا وفيها، ولا يجد، مرّة أخرى، غير حمّود للدفاع عنه.
كما لو أنّ نصر الله يتلو فعل الندّامة على التصفية العرقية التي مارسها حزبه منذ منتصف الثمانينات حتى العام 2000، حين صارت المقاومة شيعية مع حلفاء إعلاميين وسياسيين فقط، من طوائف أخرى، مثل سليمان فرنجية وطلال أرسلان وإيلي حبيقة. كما لو أنّ "حزب الله" يدفع اليوم فاتورة عزّ تنعّم به حين كانت المقاومة في ذروة شرعيتها، ويطلب اليوم شرعية علمانية ووطنية عمل هو على التخلّص منها.
لا بأس.
لكنّ السيّد نصر الله أخطأ في خطابه الأخير، ليس فقط في أنّه لم يعترف بأنّ حزبه صفّى المقاومة من صيغتها "الوطنية" وجعلها "إسلامية" و"شيعية" ضمنا، بل لأنّه مارس تصفية أخرى هي تصفية الساحة الشيعية من أحد غير "حزب الله" وحركة "أمل".
إذ قال نصر الله، في معرض شرحه الفارق بين حكومة الرئيس نجيب ميقاتي الحالية وحكومة الرئيس فؤاد السنيورة في العام 2005، التي شارك "حزب الله" فيها، قال نصر الله بالحرف: "عام 2005 شكّلتم حكومة وجرى تحالف رباعي ولم يكن خماسياً ولا سداسياً واختلفنا على الحليف المسيحي، أنتم أغلبية شكلتم حكومة ودخل إليها أمل وحزب الله، ولكن لم نكن نشكّل الحكومة، بل أنتم ولم يكن هناك شيعة غيرنا تدخلونهم، ونحن واقع موجود في البلد فقلتم تفضلوا"، ثم قال إنّ ميقاتي حاول إشراك 14 آذار في حكومته الحالية فرفضت هذه القوى.
السؤال هو حول جملة "لم يكن هناك شيعة غيرنا تدخلونهم". هل هذه جملة حقيقية؟ أما كان هناك شيعة غير الحزب والحركة في العام 2005؟ ألم يكن هناك "اللقاء الشيعي" في 2005 الذي ضمّ مئات الشخصيات الشيعية؟ ألم تحصل المعارضات الشيعية، متفرّقة، على ربع الأصوات تقريبا في انتخابات ذلك العام؟ ألم يحصل رياض الأسعد على 12 في المئة من الأصوات في دائرته؟ وألم يحصل على 20 % من الأصوات في دائرته بالعام 2000؟ وألم يكن الأسير الشيوعيّ المحرّر أنور ياسين مرشّحا إلى انتخابات العام 2005 وأقصيتموه؟
على مشارف التراجع عن خطأ الثمانينات والتسعينات، يمعن نصر الله في خطأ الألفية الثالثة: الإستفراد في الساحة الشيعية، والجنوبية تحديدا. كلّ احتكار له فاتورة. الفاتورة المذهبية لاحتكار سلاح المقاومة يحصدها اليوم "حزب الله" بسبب استفراده بالمقاومة. كلّ من نهاه عن ذلك حينها إتُّهِمَ بالعمالة لإسرائيل. الأمر نفسه يعيده اليوم، يحاول احتكار بيئة الجنوب والبيئة الحاضنة للمقاومة. والتاريخ أثبت أنّ المقاومين ليسوا بالضرورة أهلا للحكم والسياسة (عزّ الدين وفنيش والموسوي…)، على الأقلّ ليس وحدهم.