بيّض رياض طوق صفحة قوى الأمن الداخلي التي كانت تتعرّض لهجمات إعلامية وسياسية، ومحا رياض قبيسي قصّة "الرصيف الحزبي" من رؤوسنا واستبدلها بـ"الكشّافة المرتشين". هكذا غرق الرياضان في فكّين أمنيين. لحقا بفتات الأربعين حرامي، بدلا من رأس علي بابا.
لا يخفى على أحد أنّ أكثر الصحافيين اللبنانيين لفتا للنظر هم أولئك المرتبطين بأجهزة استخبارات تمدّهم بالمعلومات. أحدهم معروف بأنّ قياديا أمنيا سابقا كان يكتب المقالات وكان هو يوقّعها. آخرون يرتبطون بأجهزة عربية أو غربية. وكثيرون يرتبطون بأجهزة محلية، على هذه الدرجة من الصِّغَر أو تلك.
الجديد هو جيل جديد من الصحافيين يريدون أن يدخلوا الشهرة والإحتراف ونادي "الكبار" من خلال الإستخبارات أيضاً. وفي هذا غرابة ومفارقة عجيبة. إذ في حين تتجه الصحافة في العالم إلى "الرأي" و"الموهبة"، ترى في بيروت سباقا على "المعلومة" بما هي "وجهة نظر مدعومة بإثباتات إستخباراتية".
سأعطي مثالين سريعين لرياضين زميلين عزيزين. أولهما رياض طوق، زميلي وصديقي. طوق انتقل من صحافة التحقيقات في برنامج "تحقيق" على شاشة MTV إلى برنامج "بالجرم المشهود" على الشاشة نفسها. وهو برنامج لا إعداد فيه سوى مواكبة وحدات خاصّة من قوى الأمن الداخلي في عمليات خاصّة لتوقيف مشتبه بهم "بالجرم المشهود". برنامج أجمل ما فيه تصويره والغرافيكس المحترفة، وبالطبع طلّة طوق الذي برع في لعب دور "الصحافي الفتوّة"، أي القبضاي الذي يليق به توقيف المجرمين. هو ابن بشرّي، الخارج من "يسار" سمير قصير "الديمقراطي" إلى "قوات" سمير جعجع "المسيحية". وهذه قصّة أخرى.
لكنّ طوق، الذي كانت له محاولات كتابية هنا وهناك، وكانت ناجحة نسبيا، سلّم مهنيته إلى جهاز أمنيّ رسميّ، علنا ودون مواربة. وفي ذلك نوع من الذهاب باتجاه "الأمن". وكلّ اجتماع طويل بين "الأمن" و"الصحافة" يوصل الصحافي إلى أن يصير، تقريبا، أداة، أو على الأقلّ أن يصير طيّعا لرسائل أمنية – سياسية. ويتحوّل إلى ضعيف أمام تمنيّات الأمن ورغباته، طالما أنّ الصحافي فيه يتغذّى على قوت معلومات الأمني – السياسي.
و"بالجرم المشهود" خرج إلى الضوء في لحظة التشكيك والهجوم اليومي على "فرع المعلومات" وقوى الأمن الداخلي. والهدف إبراز صورتها كجهاز فاعل ومنتج. القوى التي تعرّضت لهجوم سياسي مبرمج توّج باغتيال رأسه الأبرز: اللواء الشهيد وسام الحسن.
كان المطلوب تبييض صورة الأمن في عيون اللبنانيين، وتحديدا في الشارع الذي يشاهد MTV. ونجح البرنامج في تأدية هذه المهمّة. أرقام المشاهدة لم تكن خيالية، لكنّ الرسالة وصلت عبر الرياض الأوّل.
المثال الثاني هو رياض قبيسي، الزميل في "السفير" سابقا، حيث قام بـ"ترانزيت" في الكتابة الصحافية والتحرير، قبل تثبيته في "الجديد" حيث برع في التقارير الخاصّة، ثم في التحقيقات، وصولا إلى تشكيله وحدة "التحقيقات الإستقصائية" الفريدة من نوعها عربيا. وبعد عدد من الوثائقيات اللافتة، ومحاولات متنوعة، كان تحقيقه الإستقصائي الأخير "إفتح يا سمسم" محطة نوعية على المستوى المهني والسياسي والموضوعي.
التحقيق شهّر بعدد من موظفي مرفأ بيروت بعدما قال إنّهم "مرتشين". فضحهم علنا و"خرب بيوتهم"، بحسب بعض ما رشح عن ألسنتهم. هؤلاء الذين ربّما يخالف القانون بعضهم أو كلّهم. لأنّ "المتهم بريء حتّى تثبت إدانته". لكنّ قبيسي ضرب حيث أراد له داعموه الأمنيون أن يضرب.
لنتذكّر أنّه خلال العام الفائت كانت جهة حزبية معروفة متّهمة، ليلا ونهارا، بأنّها تدير المرفأ لعمليات تهريب أسلحة وأموال، وأيضاً لعمليات تهريب بضائع تجارية تحت اسم مؤسسات خيرية حزبية. وبعض الشركات المتورّطة معروفة، من بلاط وأدوات صحيّة وغيرها.
في قلب المعمعة هذه خرج تحقيق قبيسي، بلمسات أمنية واضحة، وبتوجيه أوضح، لتقول إنّ "الأربعين حرامي" في المرفأ معظمهم ينتمون إلى عائلة واحدة تحت جناح حزب يميني مسيحيّ. رغم أنّ الرشوة لا دين لها ولا حزب. لكنّ الإشارة كانت كافية للقول: "المرفأ يديره فاسدون من طوائف مختلفة، لكن معظمهم من حزب واحد يميني واحد". وهذا هو "البدل" الإستخباراتي السياسي، مطعّما بلعبة الإعلام الأشهر: "تسليط الضوء على رصيف، ما يعيد أرصفة أخرى إلى الظلّ".
هنا أيضا كانتت البصمات السياسية واضحة. ربما هذا حقّ للصحافي، لكنّها بالطبع ليست صحافة إستقصائية تلك التي تبدأ في السياسة وتنتهي بها. قل هي صحافة إستقصائية أمنية محدّدة الوظيفة.
نجح الرياضان في إلهاء الجمهور. أخرجا من قبّعتيهما أرانب جديدة في الإعلام. أقنعا كثيرين. لكنّ التحدي هو القدرة على التفلّت من الأمن والسياسة. طوق من خلال رفع البرنامج إلى مستوى المتابعة في "المحاكمة" وملاحقة "الرؤوس المدبّرة" وليس فقط موزّعي المخدّرات وسارقي الزهر، بل أوّلا سارقي الحقول ومروّجي أطنان المخدّرات وليس فقط الغرامات.
وقبيسي من خلال الإمتثال إلى طلب عضو "هيئة التنسيق النقابية" حنّا غريب في داخل تحقيقه: "فتّش عن علي بابا". فالكشّافون، الذين شهّر بهم وحكم عليهم بـ"الرشوة" قبل التحقيق، هم سارقو الزهر أيضا. أي من الـ400 لاعب تحت أيدي الـ40 حرامي تحت زنّار أكثر من "علي بابا".
فتّشوا عن "سارقي الحقول"… واصنعوا الإستقصاء بلا الأمن.