لا تكون الكتابة مفيدة إن لم تكن حفرا في الذات وتنزيلا على الآخرين. أذكر أنني كنت واحدا من أطفال يصرخون في مسيرات عاشوراء بالضاحية: الموت لأمريكا.. الموت لإسرائيل". يساريّتي المستجدّة، فوق بيئتي الشيعية، ومن فوقها وتحتها إرث عائلتي الناصري، كلّ ذلك كان يصبّ في نقطة التقاء واحدة: كراهية أمريكا. ثم تدرّجت علاقتي بكراهية "أمريكا": فرحت في 11 أيلول 2001.. واليوم أقف أمام تفجيرات بوسطن حائرًا، وخائفًا من غبطة ما.
لا تكون الكتابة مفيدة إن لم تكن حفرا في الذات وتنزيلا على الآخرين. أذكر أنني كنت واحدا من الأطفال الذين يمشون في مسيرات عاشوراء بضاحية بيروت الجنوبية، ويصرخون مع الصارخين: الموت لأمريكا.. الموت لإسرائيل".
لاحقا إكتشفت أنّ إسرائيل هي العدوّ، وأنّ عداوة "أمريكا" مسألة فيها نظر. لكنّ يساريّتي المستجدّة، فوق بيئتي الشيعية، ومن فوقها وتحتها إرث عائلتي الناصري، كلّ ذلك كان يصبّ في نقطة التقاء واحدة: كراهية أمريكا.
كانت أمريكا، قبل أن أكتشف أنّها "أميركا"، ثم أنّه اسم القارّة، وأنّ اسم البلد المقصود هو "الولايات المتحدة الأميركية". كصحافيّ، في وقت لاحق لاحق، صارت "واشنطن" أو "البيت الأبيض". وفي كلّ مرّة كانت تضيق. من "أمريكا" المكروهة أينما أدرت هويّاتي المتزايدة يوما بعد يوم، إلى أميركا القارّة الغامضة، إلى الولايات المتحدة التي أريد أن أفهمها وأن أميّزها عن إسرائيل، وصولا إلى واشنطن، العاصمة المحورية الحاملة حقوق الفيتو، إلى أن صارت "البيت الأبيض". بكلّ ما يحمله هذا الإسم من "بيت" و"أبيض" وانتخابات ولوبيات، إلى أن صار ساكنه ذي لون أسمر (أسود لولا الخوف من الإتهام بالعنصرية).
في كلّ مرحلة كنت أفقد بعضا من كراهيتي لأمريكا، بل وأكتسب حبّا جديدا لواشنطن. وفي مرّة زارها أحد أصدقائي وجال في ولاياتها لشهر كامل. عاد بأخبار وطرائف أكثر ما علق منها في رأسي أنّ "اللواتي يلبسن القصير في واشنطن نهارا أقلّ من اللواتي يلبسن القصير في شوارع الضاحية". فاجأني بأنّ "الأميركيين محافظون في معظمهم" وأنّ "ما تنقله إلينا الأفلام ليس صحيحا على الإطلاق".
لا أنكر أنني كنت قرأت "أميركا والإبادات الجماعية" لمنير العكش وأنا بعد في عامي الـ19، وكتبت عنه تعليقا في صفحة "القضايا" بجريدة "السفير". كان يتنازعني باستمرار ذلك التصادم الداخلي بين كراهيتي لداعمة إسرائيل الأساسية، وبين حبّي للسينما الأميركية وهنري ميللر لاحقا وغيره.
لن أطيل في هذه العجالة الستايتوسية: في 11 أيلول شعرت بغبطة مزعجة. كان عمري 17 عاما فقط. كنت قد شارفت على إنهاء أشهري اليسارية المعدودة. وكنت على مشارف الجامعة. أزعجني فرحي بموت الآلاف. لكنّها كانت لعنة. نعم لعنة. أن تفرح لمقتل آلاف المدنيين لعنة. أن تنزعج من فرحك هذا هو الدليل على أنّها لعنة. وكنت أجد الكثير من الأجوبة على سؤال الأميركيين: "لماذا يكرهوننا؟". كنت أقول: لأنّكم تدعمون إسرائيل. لأنّكم حاولتم احتلال بلادنا بمارينزكم في العام 1983. لأنّكم تقفون مع كلّ ديكتاتور عربيّ ضدّ شعبه. لأنّكم تحاولون تركيع كلّ نظام يعارضكم، خصوصا إذا كان يساريّا. لأنّكم قاتلتم جمال عبد الناصر… واللائحة لا تنتهي.
لكن كلّ ذلك لم يكن يقنع شيئا دفينا في داخلي يقول لي: وما ذنب الذين احترقوا في برجي التجارة العالميين؟ وما علاقة دعم إسرائيل بقتل رجل كان يعمل في مكتبه بنيويورك؟ أو طفل كان عابرا تحت المبنى؟
الحاصلو: ليل الإثنين لم أفرح لخبر تفجيرات بوسطن. آلمني المشهد. أكثر ما آلمني صورة فتاة في السابعة من عمرها كانت تركض نحو موتها الماراتونيّ. لكنّني خفت أن تصيبني غبطة 11 أيلول. كنت حذرا من أن أشمت بهذا الوحش الأميركي الكاسر الذي كلّما عقصته بعوضة راحت الذئاب والخرفان تفرح وترقص جذلا من حوله.
أظنّ أنّني لم أفرح كما فعل كثيرون. البعض استغلّ المناسبة للقول إنّ الجيش الأميركي قتل مئات الآلاف ممن يشبهون هذه الفتاة، في العراق وسوريا وأفغانستان وغيرها.
ربما، لكن هذا لا يعني أن نفرح لموت مدنيّ لا حول له ولا قوّة، ولا ذنب له في أخطاء العراق وأفغانستان ولبنان.
اليوم ربما صرت أكثر تخفّفا من هذه اللعنة. وكما تحزنني مشاهد القتل السورية، أيّا كان القاتل، أحزنني مشهد بوسطن. لأنّ الأبرياء يعيشون في حيّ الظلم نفسه، أميركيين كانوا أم سوريين أم لبنانيين أم فلسطينيين. والتمييز بين أبناء هذا الحيّ هو اللعنة نفسها.