الآن أفهم لماذا تمنع الأنظمة الدينية الكحول، ولماذا تمنع الأنظمة الإستبدادية الكلام في السياسة، ولماذا تمنع تلك الملحدة الحديث في الدين. تجهد كلّها في تحويل المجتمع إلى "طالبي كلام"، طوال أعمارهم، حتّى لا يقولوا الكلام هذا، الذي يريدون قوله. بل أن يغرقوا في الخوف، بدلا من التواصل والتحضير للثورة.
بعد قتل الشاب هاشم السلمان في بيروت، أمام عيون الأمن اللبناني، ما عاد الحديث عن "مع الثورة السورية" أو "ضدّ التكفيريين السوريين". سينتقل الحديث في الأيام الآتية إلى "الحرية"، حرية الرأي، حرية الإختلاف، حرية التعبير.
هكذا ينقل القتل الحديث من "إبداء الرأي" إلى "المطالبة بالحقّ في الكلام". تماما مثل طالب يرفع يده طوال النهار، ولا تعطيه المدرّسة الإذن بالكلام. سيتحوّل اهتمامه إلى "الحصول على الإذن" و"الحقّ في الكلام مثل الآخرين". قد ينسى ما الذي كان يريد قوله. هذا ما حصل أيام الإتحاد السوفييتي. التضييق على الحريات الدينية جعل كثيرين يريدون الصلاة وممارسة الشعائر الدينية، وليس النقاش السياسي. أيام الوصاية السورية على لبنان كان المثقفون يدافعون عن حقّهم في انتقاد رئيس أو وزير، ولم يكن احد يطرح "الإنسحاب السوري".
القمع يخفّض سقف التفكير من "الكلام بحريّة" إلى "حريّة الكلام". أي إلى درجة أقلّ من الرأي. وهذا بالضبط الهدف من قتل هاشم سلمان في وضح النهار. المثقفون والكتّاب سيطالبون من اليوم بـ"الحقّ في التظاهر". حقّ مارسه اللبنانيون، بالملايين، منذ العام 2005. سيطالبون بـ"الحقّ في الإختلاف"، وهم مختلفون أصلا.
القمع بالسلاح يعيد النقاش إلى البديهيات، بدل النقاش في التفاصيل الكبيرة والإستراتيجية. بعد اليوم لن يسأل مواطن لبنانين أو جنوبي، أو شيعي: هل من حقّ حزب لبناني أن يقاتل في سوريا؟ … بل سيسأل: هل من حقّ أحد أن يقتل المتظاهرين في لبنان؟ .. بل أقلّ، سيسأل: هل بات التظاهر والإعتصام ممنوعين في بيروت؟ وهل بتنا في جمهورية الخوف من غضب المسلّح؟
ما حدث في بيروت هدفه إعادتنا إلى ما قبل العام 2005، حين كان اللبنانيون، من الجهتين، يخافون من إلقاء نكتة عن السوريين او عن آل الأسد. إلى فرملة "ربيع مدني" لبناني، بعيد عن الإصطفافات التقليدية بين 8 و14 آذار، ربيع بدأ يطلّ برأيه "رفضا للتمديد"، بسلاح البندورة، ومطالبا بقانون نسبيّ في الإنتخابات النيابية، ورفض التورّط في المستنقع السوري…
هذه هي وظيفة "القمع": ليس ان يؤجل الثورة، بل أن يبقي الناس أسرى "طلب الكلام"، ما سيؤجّل بالتأكيد إمكانية أن يفكّر أحد في قول رأيه، الذي من الممكن ان يؤدّي به إلى تلاقح فكري قد ينتج عنه توليد أفكار تساهم في تأجيج شعلة الرفض، الذي قد يوصل في النهاية إلى إعلان التمرّد، ما قد يحيل إلى تفجير ثورة في نهاية المطاف. القمع وظيفته أن يبقي الناس في المربّع الأوّل من هذه الجملة الطويلة والتافهة. قتل هاشم سلمان هو تحديدا إعادتنا إلى "طلب الكلام".