حين يقع اسم قانا على آذان المستمعين إلى الراديو، أو ينطح وجوه المتفرجين إلى تلفزيون، أو حين ينقل خبر المجزرة من شخص إلى آخر، السؤال الأوّل الذي يخطر على بال المتلقي: "مرة ثانية؟". تعود به الذاكرة إلى العام 1996، حين كانت مجزرة قانا، التي ارتكبها الاسرائيليون أنفسهم، خاتمة أحزان العدوان الاسرائيلي، ومقدمة لتفاهم نيسان.
فوراً يتذكر المتلقي أنّها ليست المرّة الاولى، وقبل أن يحزن، يتفكّر كيف انّ من نجوا من تلك المجزرة، قد وقعوا في هذه الجديدة، وربما يكون الشهداء الجدد أقرباء او اخوة أو أهل الذين سبقوهم. ويخطر على البال أيضاً أنّ هذه القرية حفرت اسمها عميقاً عميقاً في تاريخ حروب لبنان المديدة.
Zoom Property
هكذا كان وقع الخبر على مئات الشبان الذين دفعهم الغضب والحسرة والرغبة في فعل شيء إلى التوجه نحو الاسكوا للتنفيس عن إحساسهم بالعجز أمام صور القتلى، نساء وأطفالا.
شبان عاديون
كثيرون، وكلّهم رفضوا ذكر اسمائهم، تتراوح اعمارهم بين الـ15 والـ25 كحد أقصى. لا ذقون طويلة لأحد منهم. لا ثياب ملتزمة. كنزات وسراويل تدلّ على أنّهم أناس غير محزّبين. ليسوا حزبيين إذا، ولا يبدو على وجوههم أنّهم "مندسون". هم غاضبون عفويون تداعوا إلى وسط يعرفون أنّه سيستقبلهم. وأيضاً هم شابات وشبان، نازحون في معظمهم، إلى مدارس قريبة من الإسكوا أو بعيدة عنها نسبياً، لكنّها تبقى ضمن نطاق كيلومترات بيروتية. شبان طردهم الإسرائيليون من الجنوب أو من ضاحيته الجنوبية قبل اسبوعين واكثر.
غضبان
ومنذ ذلك الوقت يعيشون في المدارس. حيث المياه شحيحة، والطعام يوزع عليهم، ولا يكسبونه بأيديهم، ولا وسائل ترفيه تبعدهم عن أخبار العدوان عليهم، ولا تتوافر بين أيديهم أيّ وسيلة ليعبّروا عن رفضهم ما يحصل، أو ليشاركوا في المعاناة، سوى نزوحهم القسري وعيشهم السقيم في مراكز النزوح. المراكز التي لا تتوافر فيها أبسط مقومات العيش اليومي، لأنّها مدارس وبنيت لتكون مدارس وفقط.
مجموعة من الاسباب تحركهم اذا، وليس غضبا واحدا. غضب النزوح، وغضب الحياة السقيمة، وغضب مشاهدة القتل، وغضب العجز عن التأثير في ما يجري، وغضب من المواقف الدولية، وغضب من مواقف الامم المتحدة، وغضب أخير من مجزرة قانا التي ذكرتهم بقانا الأمم المتحدة قبل عقد كامل.
العلم والسفارة
"الاسكوا من تمثّل؟"، يسألك شاب، ويجيب: "الأمم المتحدة". "والأمم المتحدة من يحركها؟"، ويجيب: "الولايات المتحدة الأميركية". ثم يسأل: "والولايات المتحدة من تدعم؟"، والإجابة: "اسرائيل". ويخلص إلى أنّ هجومه، هو وزملائه الغاضبين، على مبنى الاسكوا هو هجوم "على السفارة الإسرائيلية في لبنان".
سننام هنا
يحكي الشبان كيف اقتحموا المبنى بعدما حطموا زجاجه الحامي، وكيف تنقلوا بين الغرف وحطموا ما استطاعو إليه سبيلا. ويحكون كيف جرح بعضهم يداً أو قدما في عملية التحطيم الفوضوية. ويريك أحدهم جرحاً طفيفا في يده مثلا.
ويحكون كيف خرجوا من المبنى نزولاً عند رغبة "الزعيم نبيه بري ورجال الأمن الذين يأخذون الأوامر من السيد حسن نصرالله"، وفي ذلك إشارة إلى نداء الرئيس نبيه بري بضرورة وقف العنف وإلى تدخل رجال أمن من "حزب الله"، الذين طلبوا من المتظاهرين التراجع عن المبنى.
في الجانب الآخر من وسط بيروت، اعتصام بدأ ليل أمس، بمبادرة من فنانين ومثقفين وإعلاميين، يطالب بوقف إطلاق النار وعودة النازحين وتحقيق دولي في المجازر الاسرائيلية. مجموعة من الأصدقاء تداعوا إلى سفح تمثال الشهداء وحملوا لافتات منددة بالعدوان ويحضّرون لجعل اعتصامهم دائماً، ليلاً ونهاراً، إلى حين وقف العدوان. لكن بلا تحطيم ولا عنف.
وسطان في بيروت إذاً. وسطان عفويان بلا تنظيمات ولا أحزاب. لكن هذه المرة الهدف واحد والقضية واحدة: وقف الحرب، عودة النازحين، والاحتجاج على المجازر. وسطان، لا فرق. المهمّ أن الوجع واحد والقضية واحدة.