يبدو حزب الله في أعلى مراحل جنون نظريته السياسية، فهذا الحزب المتفاجئ من العقوبات الأمريكية عليه وعلى حلفائه، هو نفسه الحزب الذي ينتظر "ظهور المهدي المنتظر"، حتى "يملأ الدنيا قسطاً وعدلا"، وهي عقيدة شيعية تعتبر أنّ كل ما يفعله الشيعة هو "التحضير لظهور المهدي". والمهدي، في نهاية المطاف، سيسيطر على العالم ليملأه بالعدل، في ما يمكن اعتباره "احتلالاً عادلاً"، بحسب العقيدة الخمينية.
إذاً هو حزب يريد احتلال كوكب الأرض كلّه، ومن خلفه إيران، راعيته عقيدةً وتمويلاً وتسليحاً، وسياسةً بالطبع. وهذا الحزب نفسه غاضب من العقوبات الأمريكية عليه، ويحور ويدور على المستوى السياسي اللبناني، ويرسل وفوداً إلى واشنطن، ويهدّد المصارف، عبر الإعلام وعبر قنوات خاصّة، ليدفعها إلى عدم "الذهاب بعيداً" في مجاراة العقوبات، وبعض أبواقه الإعلامية تتحدّث عن "مصرفيين وسياسيين يقدّمون خدمات إضافية للأمريكيين" في هذا المجال.
ألا ينتبه قادة هذا الحزب إلى أنّه، هو وليس العالم، من أعلن العدوان الكامل والشامل، يذكّر هذا التصرّف الطفولي بقصيدة للشاعر زكي عباس بيضون، يقول فيها إنّه سيدخل الحمام، ويقفله جيّدا، بحيث يسجن العالم كلّه في الخارج.
هكذا يريد حزب الله أن يسجن العالم كلّه خارج شرنقته الأمنية والعسكرية، ونراه يهدّد صعوداً ونزولاً، من الولايات المتحدة وقادتها، مروراً بقادة الخليج ودوله، وصولا إلى أصغر موظّف في مصرف لبناني يرفض فتح حساب لأحد عناصره.
يروي أحد القريبين من حزب الله أنّ "السيطرة على العالم" هي عقيدة أساسية في حزب الله، حتّى إنّ المقاتلين والكوادر يتلقّون دورات تدريبية ودروساً عنوانها "الممهّدون للمهدي". وكلّ الحركة العقائدية والسياسية لحزب الله تقوم على أساس العمل، العسكري أوّلاً، تمهيداً لظهور المهدي، الذي سيحتلّ العالم.
هي إذاً عقيدة لها جانب تعبوي أساسي، ولها أهداف سياسية واضحة وخطوات عملية لا تُخفى على أحد، لا تبدأ بمحاولة إيران، عبر حزب الله أو بمساعدته، احتلال أجزاء من اليمن وأجزاء من العراق وأجزاء من سوريا، ومحاولة احتلال أجزاء من أراضي المملكة العربية السعودية، وبالطبع السيطرة على لبنان، ومحاولة الإطاحة بالحكم في مملكة البحرين، وتأسيس بنية تحتية عسكرية تمّ كشفها في الكويت، والتسلّل الأمني إلى مصر، الذي تم فضحه بعباءة غزّة.
الغريب وسط هذا كلّه، تفاجؤ حزب الله وقادته بأنّ الكوكب الذي يعملون للسيطرة عليه، بدءًا من احتلال المنطقة العربية، بدأ، ولو متأخّراً، يرفض محاولاته ويحاول محاصرة الحزب مالياً وتجفيف منابع تمويله، لمنعه من التمادي في عدوانه، ومن التفرّغ بعدها، ربما، لاحتلال بقية آسيا وأوروبا، قبل أن يقطع المحيط لاحتلال الأمريكيتين، ولاحقاً وأستراليا وألاسكا.
ولهذا الجنون تتمة، فأبواق حزب الله الإعلامية ونجومه على مواقع التواصل، يعتبرون العقوبات الأمريكية "حصاراً للمقاومة". ولا يخجلون من استعمال كلمة مقدّسة، وهي حقّ المظلوم بـ"مقاومة" الظالم، في توصيف اعتداءاتهم على الشعوب العربية والظلم الذي ينشرونه، من القصير على حدود سوريا اللبنانية، وصولاً إلى مدن اليمن الحزين.
إمّا أنّ الماكينة الإعلامية لحزب الله قاصرة عن حياكة رواية معقولة وقابلة للتصديق حول سبب "الحصار" المالي الذي يتعرّض له الحزب، وإمّا أنّ هذا الحزب بات منفصلاً عن الواقع، ووصل إلى مرحلة من النرجسية والانتفاخ المعنوي، جعلته غير قادر على استيعاب أنّ محاولته احتلال دول ستُقابل بـ"مقاومة".
وهنا تستعيد كلمة "المقاومة" قدسيتها ومعناها، فالذين يقاومون حزب الله، خارج لبنان، وأيضاً داخله، هم المقاومون الحقيقيون في القرن الحادي والعشرين. مقاومو النزعة التوسعية الإيرانية، الأكثر شرهاً ووقاحةً من النزعة التوسعية والعدوانية الإسرائيلية، وهي المشروع الاستعماري الجديد في العالم.
المقاومة تبدأ من القصير والزبداني، المحتلّتين من قبل حزب الله، ولا تتوقف في كلّ شبر عربيّ تحاول إيران احتلاله وطرد أهله وتغيير هويّته. وحزب الله اليوم هو المُحتلّ الغاصب، وهو الذي عليه أن يفهم لماذا بات ورماً يحاول العالم مداواته بمضادّات المال ومضادّات السياسة ومضادّات الأمن.
لبنان بات اليوم محكوماً من حزب الله. وبالتالي فإنّ العالم بات ينظر إلى لبنان على أنّه حزب الله، وحزب الله هو لبنان. ومحاولات طلب المال، عبر مؤتمر "سيدر" أو عبر استجداء ودائع واستثمارات، سيكون أصعب وأصعب؛ لأنّه من غير المنطقي أن يطلب المعتدي مساعدات من المُعتدى عليهم، كأنه يقول لهم: "أعطونا المال، ساعدونا، أنجدونا، لنستمرّ في الاعتداء عليكم… لنستعمركم".