لم يعد أمام "السلطة" في لبنان سوى العنف والدم. لم يعد أمامها سوى إشاعة خطاب الكراهية واستنهاض العصبيات المذهبية، من أجل وأد انتفاضة اللبنانيين ضدّ الطبقة السياسية، وثورتهم ضدّ الفساد وسياسات التجويع والإفقار التي أوصلت لبنان إلى شفا المجاعة.
لم يعد أمام "الحزب الحاكم"، بجناحيه، الحزب اللهي والعوني، غير ضرب الساحات من خلال خطاب مذهبيّ يعيد اللبنانيين إلى خنادقهم العميقة، ويجعلهم أعداء بعضهم البعض، في خدمة الزعماء المذهبيين، كي يكملوا امتصاص دمائهم ودماء أولادهم من بعدهم.
مؤلمٌ لأرباب العنف مشهد اللبنانيين في الساحات يرقصون على أنغام الأناشيد الوطنية. يتألّمون حين يرون الحدود الطائفية تسقط بين المناطق وبين الآتين من مذاهب وطوائف متعدّدة، ليصبّوا في نهر واحد، هو نهر الثورة ضدّ الطبقة السياسية. والحلّ الوحيد الذي بقي أمام هذا الحزب الحاكم هو سلام الدم.
إشارات عديدة وجّهها حزب الله إلى الثوّار، بدءا من يوم الثورة الأوّل في 17 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وصولاً إلى ليلة الأربعين من الثورة، 24 نوفمبر/ تشرين الثاني، والإشارات كلّها تهدّد بالدم وبالفوضى، ودوماً الحجّة نفسها: "شتموا حسن نصر الله". رغم أن لا أحد يريد شتمه، ولا أحد يرى أنّه حان الوقت لمحاسبته على ما ورّط به لبنان من خصومات عربية وحروب لصالح الوليّ الفقيه الإيراني. هذه مرحلة سيأتي دورها لاحقاً.
الثورة الآن تخاصم الفاسدين من السياسيين، وتدفع نحو حكومة لا مكان فيها للوجوه المستفزّة للشارع، لكنّ السلطة لا تعرف غير لعبة واحدة، والحزب الحاكم تحديداً، لا خبرة لديه في إدارة معركة بوجه وطنيين. اعتاد طويلاً على الشوارع المذهبية، وبات خبيراً في مواجهة المسيحيين تارةً، والسنّة طوراً، والدروز أطواراً.
هي المرّة الأولى التي يهتف شبّان حزب الله: "شيعة، شيعة، شيعة" في مواجهة لبنانيين آخرين على جسر "الرينغ" في وسط بيروت، فيردّ عليهم الثوّار على بعد مئتي متر: "شيعة، شيعة، شيعة". لعلّه الردّ الأذكى في تاريخ لبنان. كانوا يقولون لهم: "نحن شيعة مثلكم، وأنتم عليكم أن تثوروا مثلنا". رفضوا الانصياع لمحاولاتهم، بأن يجعل منهم "مسيحيين" أو "يساريين" أو حتّى خليطاً واسعاً لكنّه يعادي حزب الله. قالوا لهم: "نحن منكم". وهتفوا: "شيعة، شيعة، شيعة".
انتهز حزب الله فرصة مقتل رجل وامرأة في حادث سير على الطريق العام الذي يربط جنوب لبنان ببيروت. استغل موت رجل وشقيقة زوجته، ونجاة ابنته، من حادث سير عاديّ، وطبيعيّ، يحصل 10 مرّات وأكثر في لبنان يومياً، بسبب عوائق وضعها الجيش.
الاستغلال كان ميسّراً لحزب الله لأنّ الحادث وقع على مفرق بلدة برجا السنيّة. هناك حيث استعصى على الجيش وقوى الأمن فتح الطريق كلما أقفلها شبّان بلدة برجا (أكثريتها سنيّة). رغم أنّ الحادث وقع بعيدا عن مكان الاعتصام عشرات وربما مئات الأمتار، كما أوضح فيديو وثّق لحظة وقوع الحادث.
حشد حزب الله مناصريه ليل الأحد 24 نوفمبر/تشرين الثاني، بعد ساعات من الحادث، وهاجم شوارع "مسيحية" الطابع في وسط بيروت، وحطّم مناصروه السيارات على جانبي الطريق، وكتبوا على الجدران شعارات مذهبية، وهم يهتفون بشعارات مذهبية كذلك. وفي اليوم التالي، ليل الإثنين 25 نوفمبر/تشرين الثاني، حشد حزب الله مناصريه على أطراف ضاحية بيروت الجنوبية، وفي ساحات جنوبية، ضمن تحرّكات صنّفها الإعلام "عن روح الشهيدين".
فوراً باتا شهيدين وبات على المجتمع الشيعي أن يحيي ذكراهما، وذلك في محاولة استنهاض قبيحٍ لعصبية شيعية ما، ضدّ الثورة وضدّ المنتفضين منذ 17 أكتوبر/تشرين الأوّل.
لكنّ الشيعة شاركوا في الانتفاضة وفي الثورة، في مدن كبيرة مثل بعلبك والنبطية وصور، وفي بلدات أساسية مثل كفر رمان وبنت جبيل، رغم اعتداءات مارسها شبّان حزب الله ضدّ المعتصمين والمتظاهرين.
هو السلاح الأخير لدى هذه السلطة: سلاح المذهبية، بهدف إعادة تقسيم اللبنانيين، شيعةً وسنّةً ودروزاً ومسيحيين.. وهذا السلاح خرطوشه الوحيد هو الدم الذي لا بدّ سيسيل على الطرق وسيكون دم حادث السير "نزهة" أمام الدم الذي سيغطّي مساحات كبيرة من خريطة لبنان.
هو سلاح المذهبية والدم الذي يبدو أنّ "السلطة"، بحزبها الحاكم حزب الله، لم يعد أمامها غيره لضرب ثورة اللبنانيين من أجل الحريّة وضدّ الفساد والجوع.