هو اعتراف واضح وصريح ولا لبس فيه من حزب الله، بأن شعار "المقاومة" بوجه إسرائيل، ما عاد قادراً على إقناع أحد، لا في الداخل ولا في الخارج. وهو إقرار متأخر بأن المشروع الذي ادعى أنه "حركة تحررية"، ينتمي إلى سلالة الحركات التحررية، منذ مطلع القرن الماضي إلى اليوم، ليس إلا حركة مذهبية منغلقة، هدفها السيطرة والتوسع.
هو اعتراف تاريخي، من ذراع إيران اللبنانية، بأن حزب الله هو حركة "شيعية" الواجهة، عدوانية المحتوى، لا تعترف حتى بالشيعة المعارضين من أبناء بيئتها، في مدن صور والنبطية وبعلبك وبيروت.
بدا ذلك واضحاً في الهجوم القاسي من شبان حزب الله وحركة "أمل" على خيم الثوار اللبنانيين في هذه المدن ذات الأكثرية الشيعية، خلال الأسبوع الفائت، مطلقين هتافاً وحيداً وعارياً يحمل كل صفات الاعتراف: "شيعة، شيعة، شيعة".
قبلها كان شبان من هذين الحزبين قد هاجموا خيم الثوار اللبنانيين في ساحة رياض الصلح، وسط بيروت، والشبان والشابات المحتجين على "جسر الرينغ" في الوسط نفسه، وضربوهم، هاتفين بالحناجر نفسها: "شيعة، شيعة، شيعة".
ثم جال شباب حزب الله وأمل على خطوط التماس التاريخية، المسيحية – الإسلامية بين الشياح وعين الرمانة، والسنية – الشيعية في قصقص، وكان الهتاف نفسه: "شيعة، شيعة، شيعة".
فلماذا يهتفون باسم المذهب الذي حاول حزب الله مراراً الهروب من "عباءته" والتأكيد على أنه حزب غايته "مقاومة" إسرائيل في لبنان وفي مواقفه الفلسطينية، و"مكافحة الإرهاب" حين انغمس بالدم السوري وتورط في المشهد العراقي، "والمدافعة عن المظلومين" في اليمن وغيره. لماذا؟
قد يكون الجواب أكثر بساطة مما يعتقد كثيرون.
فاللبنانيون الذين نزلوا إلى الشارع، خصوصاً الشيعة منهم، في الجنوب وبعلبك وعلى أطراف الضاحية، وفي قلبها، ضمن منقطة المشرفية، ما عادوا يصدقون "شعار" المقاومة. وبات الجوع يحرّكهم، وهم يرون القصور التي بناها مسؤولو حزب الله في القرى والبلدات الفقيرة. قصور يكاد المنطق يقول إنها قاب قوسين أو أدنى من التعرض لمظاهرات الجائعين الذين لا يجدون قوت يومهم.
ما عادت نافعة "حكاية" أنّ حزب الله وحركة "أمل" يعملون لـ"نصرة المحرومين"، ولا ادعاء "محاربة الفساد"، الذي بات يٌسمى على وسائل التواصل الاجتماعي، بـ"حسن اكبر مستنداتي"، على سبيل المزاح، المسؤول عنه في حزب الله، النائب حسن فضل الله، بسبب تكراره التهديد بـ"كشف ملفات ومستندات ستودي بمسؤولين كبار إلى السجن".
والحال هذه، ما عاد أمام حزب الله سوى "الهيكل العظمي" الحقيقي الذي يتألف منه فكره وتنظيمه، وهو "الشيعة". هكذا، بالعُري المذهبي الحقيقي، بعد سنوات من محاولته إخفاءه بملابس المقاومة والدفاع عن الفقراء ونصرة المظلومين ومواجهة الإرهاب.
"شيعة" فقط، بلا أي مشروع اجتماعي أو اقتصادي أو سياسي أو حتى ديني. "شيعة" بالمعنى السلبي للكلمة، وبما تحمله من إيحاء بـ"الاعتداء" و"الهجوم على الآخر" و"العنف"، وليس بما تحمله هذه الكلمة من معاني "التضحية" و"نصرة الحقّ" و"الاستشهاد في سبيل الكرامة".
فهؤلاء الذين يعتدي عليهم شبّان الهتاف المعيب، خرجوا للمطالبة بكرامتهم وبحقوقهم وخرجوا مستعدين للتضحية بحياتهم، مثل علاء أبوفخر وحسين العطار، شهيدي الثورة اللبنانية. وبالتالي هم أقرب إلى التشيع من شبان القبضات العنيفة والحناجر المُهينة.
حتى إن النائب عن حزب الله، إبراهيم الموسوي، كتب يوم الأربعاء الفائت على تويتر أن "رفع الشعارات المذهبية مثل (شيعة شيعة)، أو أي شعار مذهبي آخر أمر مستهجن جداً، بالتأكيد لا يفيد المذهب بل يمكن أن يضره أيضاً". وأضاف: "لقد كان الأداء الشيعي قولاً وفعلاً وتضحيات، راقياً دوماً، وتوحيدياً على المستويين الإسلامي والوطني، وأخلاقياً وإنسانياً بامتياز أيضاً، فلنحفظه كذلك".
فيما خرج رجل الدين الشيعي المعارض لحزب الله، الشيخ ياسر عودة، ليقول: "شعرت أنهم يشوهون المذهب الشيعي، ويشوهون صورة المجتمع الشيعي، لأن أمير المسلمين عليه السلام يقول: "شيعتنا من عمل بأخلاقنا وإلا فليسوا من شيعتنا". وأضاف: "السؤال الطبيعي: هل هذه أخلاقنا؟ تستعملون اسم التشيّع واسم الحسين؟ أفهم ذلك على جسر الرينغ، لكن بعلبك وصور والنبطية ماذا؟ هؤلاء شيعة مثلكم مثلهم". وختم: "من عاش الحسين أن يقف بوجه حركة الناس وضد مطالبها من أجل حماية الفاسدين".
وكان لهم بالمرصاد ليل الأربعاء أيضاً الشيخ علي، نجل السيد الراحل محمد حسين فضل الله، الذي توجّه إلى مناصري حزب الله بالقول: "عندما تهتف باسم الشيعة يجب أن ترتقي الى قيم التشيع وأخلاقه". ومثلهم شيوخ شيعة كثيرين تضامنوا مع أهالي عين الرمانة المسيحيين، معترضين على عراضات حزب الله وحركة "أمل" الشعبية ضدهم.
"شيعة، شيعة، شيعة"، هكذا ودون أي حياء أو خجل، يعلن مناصرو حزب الله أنه بات حزباً مذهبياً فقط.
وللتذكير، فقد كان لبنانيون كثيرون قد وضعوا أصابعهم على هذا الجرح منذ سنوات، حين توجه مقاتلو حزب الله إلى سوريا، للمشاركة في قمع ثورة الشعب السوري وتحويلها إلى صراع مسلح، بين الثوار، وبين الحزب وجيش بشار الأسد، الذين كانت لهم الغلبة العددية والنوعية.
وكان اللبنانيون قد استشعروا، ولمسوا، وأمسكوا بعيونهم، جحافل حزب الله، في شوارع بيروت وجبل لبنان، وهم يحتلون مناطق لا يسكنها الشيعة، في 7 مايو/أيار 2008، لانتزاع مكاسب سياسية في الداخل اللبناني.
وقبلها بكثير كان اللبنانيون قد اشتموا رائحة "الانصياع الكامل" لحزب الله في المنظومة الإيرانية، بعدما نفذ حزب الله، عملية عسكرية خارج الخط الأزرق وخارج مزارع شبعا، في 12 يوليو/تموز 2006، على إيقاع المفاوضات النووية بين الولايات المتحدة وإيران. ونجح حزب الله في الضغط من البوابة الإسرائيلية، لإقرار الاتفاق مع الرئيس باراك أوباما، لكن بكلفة 1500 قتيل لبناني وعشرات مليارات الدولارات، وسنوات من إعادة إعمار الضاحية والجنوب والجسور في لبنان كله.
وقبل 20 عاماً، كان لبنانيون كثيرون، ومعظمهم من أركان المعارضة الشيعية، لثنائي "حزب الله" وحركة "أمل"، قد أشاروا بإصرار إلى الحزب العسكري، وقالوا للبنانيين إنّه يستعمل سلاحه في الضغط عليهم وعلى بيئته، في الجنوب والبقاع والضاحية، ويمنعهم من العمل السياسي، ويهدد معارضيه من الشيعة في وظائفهم وفي أرزاقهم وفي معاملاتهم الإدارية، ليبسط سيطرته الشعبية، ويخنق أي صوت آخر داخل البيئة.
قال المعارضون الشيعة هذا الكلام منذ تحرير الجنوب في مايو/أيار من عام 2000. لكن أحداً لم يسمع. وانتظر اللبنانيون 8 سنوات، حتى مايو/أيار 2008، ليصدّقوا أنّه حزب يستعمل سلاحه لإخضاع المختلفين معه.
أما العرب فانتظروا حتى اندلاع الثورة السورية في 2011، ليكتشفوا أن حزب الله ليس "مشكلة لبنانية"، وأن ما تركوه ينمو، كالفطر، في البيئة الشيعية، انتشر من خلال "سرايا المقاومة"، العسكرية والسياسية، في البيئات السنية والمسيحية والدرزية، صانعاً نواباً ووزراء (في الحكومة الأخيرة) من كل الطوائف، بناء على فوزه بالانتخابات النيابية، ثم راح ينتشر في الدول العربية من أقصى الشمال الأفريقي إلى أقصى الخليج العربي.
حزب الله اعترف: "شيعة، شيعة، شيعة". وخرج شيعة آخرون في كل المدن الشيعية يتظاهرون ضد الجوع وضد "الحزب الحاكم".
ومن الآن فصاعداً، على المجتمع العربي والدولي أن يحمي هؤلاء الخارجين من حزب الله وعليه. فالمستقبل للشيعة المدنيين، وإلا، فسيأكل شبان الحناجر والقبضات، مستقبل لبنان كلّه، وربما مستقبل شعوب عربية أخرى أيضاً.