"الأقوياء في طوائفهم" هي النظرية التي ابتُدِعَت من أجل التسوية الرئاسية بين العماد ميشال عون والشيخ سعد الحريري، ليصير الأوّل رئيساً لجمهورية لبنان، باعتباره حائزاً على تمثيل القسم الأكبر من المسيحيين، والثاني رئيساً لمجلس الوزراء باعتباره الممثّل لأوسع شريحة نيابية وشعبية من السنّة. ويضاف إليهم الثابت منذ ثلاثة عقود، الرئيس نبيه برّي، ممثلاً للشيعية السياسية في رئاسة مجلس النواب. وتمّ تقسيم التمثيل في مجلس الوزراء وفق هذه النظرية، إضافة إلى التوازنات النيابية التفصيلية التي أفرزتها الانتخابات النيابية الأخيرة.
تفترض هذه النظرية أنّ تمثيل الطوائف، بأقويائها، في السلطة اللبنانية، سيحدّ من الأزمات السياسية، وسيفتح المجال أمام اتخاذ إجراءات وقرارات تعفي السلطة من مواجهة الشارع، لأنّ "الشوارع" ستكون ممثّلة بـ"الأقوياء". كما تفترض أنّ تمثيل شرائح أوسع من "المذاهب" هو الحلّ للخروج من "أزمة النظام" التي دخلها لبنان طوال عامين ونصف العام من الفراغ الرئاسي.
كما أنّ هذه النظرية أعطت رئاسة الجمهورية لفريق 8 آذار، مقابل رئاسة الحكومة لفريق 14 آذار. لكن بالممارسة تبيّن أنّ 8 آذار لها رئاسة الجمهورية كلّها، وراحت تقاسم الرئيس الحريري على صلاحياته في رئاسة الحكومة، بدءاً من تشكيل الحكومة، حيث نالت الثلثين المعطّلين في مجلس الوزراء، وليس ثلثاً معطّلاً فقط، وشاركت في تسمية معظم الوزراء.
بعد ثلاث سنوات من هذه النظرية، يبدو واضحاً أنّ الأزمة السياسية تحوّلت إلى أزمة مالية واقتصادية. ووصل طرفا التسوية الرئاسية إلى حائط مسدود في إدارة شؤون الدولة، ربما لنقص في كفاءة الفرق القيادية، وربما لعيبٍ في تشكيل هذه الفرق. فهي فرق تم تعيينها من قبل "الأقوياء" في سبيل بقائهم أقوياء، لناحية اختيار النافذين شعبياً، والقادرين مالياً، وليس بالضرورة الأكثر كفاءةً.
اليوم، وعلى عتبة سقوط لبنان، مالياً واقتصادياً، نشهد السقوط المدوّي لهذه النظرية.
بات واضحاً أنّها نظرية عنصرية، تفترض أنّ "الأكثر شعبية"، سيكون الأكثر كفاءةً، والأكثر ذكاءً، والأكثر قدرةً على القيادة. بل عنصريتها افتراضها أنّ الأكثر شعبية في هذا المذهب، سيكون الأكثر ملاءمة لهذا المنصب. وهذا تجاوزته البشرية في القرن الحالي.
الأقوياء في طوائفهم ليسوا بالضرورة الأكثر كفاءة لقيادة لبنان. بل ربما يكونون الأكثر "تمدّداً"، والأكثر حاجة إلى الوظائف في الدولة، لإشباع المناصرين والحواشي (جمع "حاشية"). والأكثر حاجة إلى الأموال، لتمويل بقائهم "الأقوياء" في كل استحقاق، في الانتخابات البلدية، وفي الانتخابات النيابية، وفي الانتخابات النقابية، وفي انتخابات المهن الحرّة، من مهندسين ومحامين وعمّال وفلاحين.
الأقوياء في طوائفهم، كما بيّنت تجربة السنوات الثلاث الأخيرة، يحتاجون إلى تمويل سلسلة الرتب والرواتب التي زادت على كاهل الدولة، واستطراداً على أكتاف اللبنانيين، ما يقارب ملياري دولار سنوياً، كـ"رشوة انتخابية" لمئتي ألف موظّف، من كلّ المذاهب والمناطق، توجّهوا إلى صناديق الاقتراع وهم فرحون بمضاعفة رواتبهم ضربة واحدة، وجدّدوا البيعة لـ"الأقوياء".
الأقوياء في طوائفهم يحتاجون إلى الكثير من المزايدة المذهبية، وإلى نسب متزايدة من الخطاب العنصري، ليبقوا أقوياء في نظر القواعد الشعبية، خصوصاً مع قانون انتخابات مذهبي، نسبي في المحافظات، جعل المزايدة في التعصّب معياراً لزيادة الشعبية، وليس الانفتاح الوطني والخطاب الجامع.
الأقوياء في طوائفهم يحتاجون، كلّ يوم، إلى اختراع خلاف بين بعضهم وبعض، لإبقاء جذوة الاستنفار المذهبي في أعلى مراحلها، كي يبقوا هم، وليس أحد غيرهم، في أعلى سلّم حاجة القواعد المذهبية إلى حمايتهم من "الآخر"، مذهبياً ومناطقياً. ما جعل لبنان، أكثر من أيّ وقت مضى، منذ الاستقلال، وما قبله، ساحةً مزايدات مذهبية واستنفار يومي، لا تبدأ من الخطاب الانتخابي المتشنّج، وتمرّ في أحداث قبرشمون ونبش قبور الحروب الأهلية كلّ يوم، ولا تنتهي في استثارة العصبيات المذهبية لحرف الشارع من ثورة وطنية إلى مناوشات مذهبية.
الأقوياء في طوائفهم يحتاجون إلى الكثير من المال ليصرفوا على وسائل الإعلام، كي تستر فضائحهم، وكي تحاول اختراع طرق لامتداحهم، رغم أنّ البلاد تذهب بكلّ اللبنانيين، إلى مجهول ماليّ وإلى انهيار اقتصادي بات واضحاً. وبالتالي يحتاجون إلى صداقات رجال الأعمال والأثرياء، وبالتالي يستسهلون فرض الضرائب على الفقراء ومتوسّطي الدخل، ويحيّدون المصارف وكبار المتموّلين. وهذا ما نشهده حالياً في كلّ الأوراق الاقتصادية التي لن تنشل لبنان من أزماته.
سقطت نظرية "الأقوياء في طوائفهم". وسقوطها قد يتحوّل إلى أزمة نظام. لأنّها ما عادت مقنعة، لا في الداخل ولا في الخارج. وبعد الرئيس المكلف بتشكيل حكومة لبنان، حسّان دياب، فإنّ سقوط هذه النظرية سيهيّئ أسماءً أقلّ تشنّجاً ليشغلوا رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكم لمجلس النواب لاحقاً، في المرحلة المقبلة.
اللعبة تتغيّر في لبنان، ولا أحد يستطيع منع تحوّلاتها السريعة.