محسن ابراهيم: مقاوِمٌ لم يطلب السلطة
ليست صدفةً فقط أن يموت محسن ابراهيم اليوم، فيما نحن نعاني من عقوبات دولية بسبب "سلاح" منذور لمقاومة إسرائيل دائماً، وفي أوقات الفراغ، يُستعمل لترهيب جزء من اللبنانيين، ولإحكام القبضة على بيئة "السلاح" وعلى البيئات الأخرى، وتطويع السياسة الداخلية والخارجية للبنان، والتدخّل في شؤون دول عربية، بالقوّة واستخدام هذا السلاح.
مطلق "جمّول" (جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية) الذي عاش في الظلّ منذ انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية، يرحل، في الظلّ أيضاً.
محسن ابراهيم كان من قلّة قليلة تجرّأت ووقّعت "إعلان الحرب" على القوات الإسرائيلية الغازية. هو وجورج حاوي، وقّعا بيان إطلاق "المقاومة" من قلب بيروت، في حين كان كثيرون يختبئون، وكانت ميليشيات كثيرة ترمي أسلحتها في مستوعبات النفايات على الطرق، استسلاماً وخوفاً.
محسن وجورج وقّعا البيان وقليلون انتبهوا إلى "غياب" تواقيع آخرين، ممن كانوا قيادات "الحركة الوطنية" عموماً. وقّعاه حين عزّت التواقيع، وحين كان الإسرائيليون يشربون القهوة في مقاهي شارع الحمرا، وحين تخلّى العالم كلّه عنّا، بما فيه الحليف السياسي لجورج ومحسن، الاتحاد السوفياتي.
لم يكن لـ"المقاومة" يومها من نصير في العالم. رجلان كتبا البيان، ومعهما بضعة مجانين، بقيادة إلياس عطا الله ميدانياً، خطّطوا للعمليات الأولى، ومن بينها عملية صيدلية بسترس. هذا الجوّ استنفر الوعي المقاوم، فتتالت العمليات وتناسلت، وكان أحلاها عملية خالد علوان في "الويمبي". خالد القومي السوري، الذي دفع الفاتورة عن ضابط إسرائيلي، برصاصة روت بدم الضابط الغازي كرامةَ بيروت.
بيروت، عاصمة العرب، دخلها الإسرائيليون غُزاةً، فوجدت في أبو أنيس، الأرثوذكسي الآتي من بتغرين في المتن الشمالي، وأبو خالد، الشيعي الآتي من أنصار جنوب لبنان، والذي نشأ في صيدا، وجدتهما يرفعان راية المقاومة، ويعلنان الحرب على الجيش الإسرائيلي… حتّى خرجت القوات الإسرائيلية بالمشهد الشهير: "لا تطلقوا النار يا أهالي بيروت.. نحن منسحبون".
أن يموت محسن ابراهيم اليوم، هي صدفة، لكنّها، رغم حزنها وألمها، خيرٌ من ألف ميعاد.
فذلك الرجل الصامت، الذي آثر الابتعاد عن الضوء، هو النقيض الكامل لكلّ ما يمثّله رجال السلاح في أيّامنا هذه. من طينة نادرة، على المستوى الشخصي، وعلى المستوى السياسي. لم نرَه على الشاشات يتبجّح ليقول لنا: "لو ما إجرنا ما تحرّرت الأرض". تلك الجملة الشهيرة التي سمعها كلّ معارض سياسي في الجنوب، من مناصري حزب الله ومسؤوليه، لم يقُلها محسن ابراهيم. هو قام بواجبه وفق قناعته، حين كانت المقاومة تعني الاستشهاد. فقط قام بواجبه وعاد إلى المنزل، إلى الظلّ، حيث يعيش المقاومون الحقيقيون.
لم يطلب منصباً، في سلم تقسيم الجبنة، ولم يطلب شيئاً لنفسه، ولم يداوم على الشاشات ليقول يومياً ما لا يستحقّ أن يُقال، بطعم وبلا طعم. لم يتسبّب لنا بعقوبات دولية لأنّه يريدنا أن نقاتل في كلّ زاوية ودولة، وأن يشارك في احتلال دول عربية.
كان "عرفاتياً"، أي "فلسطينياً"، بلا شعارات طنّانة، ولا وعود بتحرير القدس. وحتّى في عزّ الوصاية السورية والاحتلال العسكري السوري للبنان، لم يتبرّأ من "فلسطينيته" و"فتحاويته"، لأنّه كان شجاعاً ووفياً. الرئيس الفلسطيني محمود عباس طلب تنكيس الأعلام، لكن في لبنان، لا حداد، ولا من يحزنون أو يحدّون، على من أطلق "المقاومة"، ومن ساهم في تحرير بيروت وجزء كبير من الأراضي اللبنانية، وصولاً إلى الشريط الحدودي الضيّق والصغير، الذي ساهم حزب الله في تحريره لاحقاً.
لا حداد في لبنان، ولا تنكيس أعلام. فهذه بلاد لا تحترم رجالها الحقيقيين. لم يكن محسن ابراهيم محرّضاً مذهبيا أو منافقاً سياسياً، كي تنكّس له الأعلام. وهي بالمناسبة لن تضيف شيئا على تاريخه.
"الممسكون" بالسلطة اليوم، يخيفهم نموذج محسن ابراهيم، ويفضّلون أن يُدفن بلا ضوضاء.