فيديو الهجرة: تعميم اليأس ودفن الثورة
ثمة "ترند" أخذ "يركب" على مواقع التواصل الاجتماعي منذ أسابيع، هو التطبيل للهجرة، وتعميم اليأس. هكذا وفي ما يشبه دفن كلّ أفكار الغضب والاعتراض والتمرّد، التي صنعت لحظة "17 تشرين" وما تلاها من تحرّكات شعبية. وهذا "الترند" يكبر، وبدأ يجمع من حوله، إضافة إلى ناشطين "مؤثّرين" حذّروا من موجة هجرة جديدة وكبيرة، فنانين نراهم يتسابقون على تصوير الهجرة و"استباقها" فنيّاً، في ما يبدو أنّه رغبة بالتنبّؤ، وفي الوقت نفسه يحفّز رغبات الشباب والصبايا في البحث عن "مخرج" من الأزمة التي يعيشها لبنان.
الهجرة تعني التوجّه من مخرج طوارىء إلى حلّ فردي، بعدما كانت "الثورة"، في أحد معانيها، شروعٌ في البحث عن حلّ جماعي، وعن عقد اجتماعي جديد، أو انصهار في رحلة البحث عن الحلّ.
فشل الثورة، وإعلان هذا الفشل بهذه الطريقة الواضحة، وبهذا الشعار الفاقع: "الهجرة"، يعني أيضاً أنّنا قد ندخل في نفق طوله عشر سنوات أو أكثر، من الإحباط. وهذه المرّة الإحباط ليس سنيّاً ولا مسيحياً ولا شيعياً. هذه المرّة الإحباط يضرب المجموعات الثورية، والبيئات الجديدة، المستجدّة على العمل الشعبي والسياسي والاجتماعي، وناشطي المنظمات والجمعيات الأهلية والمدنية. تلك التي كانت نواتية في تأسيس الحراك الشعبي بعد انطلاقة شرارة 17 تشرين.
فجأة، يخرج علينا فيديو يجمع شبانا وفتياتٍ، رجالاً ونساءً، يخبروننا أنّهم سيهاجرون من لبنان، إلى كندا والسويد واليونان والإمارات وألمانيا وغيرها. مهندس، ومخرجة، وصحافية، وطبيب أسنان، وتاجر سيارات ومدرّسة، أستاذ مهني، وحلّاق و"مواطنة موظفة بشركة"، وموظفة شركة… وغيرهم من "المستعدّين للهجرة" بوجوه مكشوفة، وأخرى غير واضحة.
يجمع كلّ هؤلاء أنّهم ينتمون إلى "الطبقة الوسطى". مهنهم من تلك التي تدرّ أرباحاً تعتبر بين المتوسطة والمرتفعة: صاحبة شركة تكنولوجية، وصحافية مشهورة (جيزيل خوري) وتاجر سيارات، وحتّى الحلاق والمدرّسة والموظفة في مصرف، يعتبرون من ذوي الدخل المرتفع نسبياً، وليس من الفقراء.
الفيديو ينتهي بالمهاجرين يلوّحون بأيديهم، مودّعين المشاهدين.
هذا ليس تقريراً صحافياً، الذي عرضته ديما صادق على صفحاتها، بل هذا "نشيد الهجرة". شيء مثل تحويل موضوع الهجرة إلى عنوان كبير، وتشجيع الناس عليه، على هذه الأدراج الخلفية، في المبنى المتداعي، حيث قرّر أصحاب الرأي، من الناشطين ومتوسّطي الدخل، أن يقفلوا بيوتهم ويغادروا، بعدما تبيّن لهم أنّ حياتهم التي يريدونها، مهدّدة.
https://www.facebook.com/watch/?t=0&v=1135701833481705
ما يجمعهم أيضاً أن لا أحد منهم تحدّث عن "جوع" أو عن "فقر". تحدّثوا عن أحلام لم تعد ممكنة، وعن فرص باتت قليلة. بثيابهم المرتبّة، ووجوههم التي تدلّ على راحة مالية، ومهنهم التي تؤشّر إلى دخلهم الذي كان مرتفعاً نوعاً ما… قالوا لنا إنّ رغبتهم في عدم النزوح من الطبقة الوسطى إلى ما دونها، ستأخذهم بعيداً، وهذا حقّهم بالتأكيد وطبعاً.
لا أحد يقول إنّه مطلوب أن نجوع. لكنّ أحدهم قال إنّ من سيبقون هنا هم المعتّرون، لأنهم لا يملكون حتّى فرصة الهروب من هذا "الجحيم"، كما وصفته امرأة ستهاجر إلى كندا.
لكن أيّها الناشطون، ألا يغيب عن بالكم أنّ الوطن ليس "Projet"، حين يفشل نقفله ونغادر. لكلّ ظروفه، صحيح. لكن "نشيد الهجرة" له وظيفة تبدو هنا أقرب إلى "التطبيل" للهجرة، وإلى رفعها في مقام "المشروع" الجديد الذي يريد البعض له أن يكون واجهة المرحلة المقبلة.
لطالما كان لبنان موطناً للمضطرّين: الهاربين من المجازر، مسيحيين من الأرمن، وفلسطينيين هاربين من إسرائيل، وسنّةً هاربين من بطش الأسد في سوريا… ومعارضين من مختلفة الجنسيات العربية…
لطالما كان لبنان، خصوصاً بعد انتهاء الحرب في 1990، موطناً لمن لم يتمكّنوا من المغادرة، حاولوا وفشلوا، ولمن أدخلتهم الميليشيات إلى وظائف الدولة، وللميليشيات نفسها وبيئاتها الحاضنة، ولمن يقبضون رواتبهم من دول خارجية، وللسارقين، والفاسدين، والفقراء المضطرّين للبقاء، واللاجئين، والمنظمات الدولية، والاستخبارات المختلفة، والسيّاح… لطالما كان لبنان أقلّ من وطن.
ولهذا كانت لحظة "17 تشرين" ضوءاً شحيحاً في نهاية نفق طويل، يقول لنا إنّ هناك من قد يوفّقوا إلى بناء خيمة جديدة، يتفيّأ تحتها شبّان وشابات، ويبنون ملاذاً لمن ليسوا من كلّ الشرائح المذكورة أعلاه، لمن هم طلاب وموظفون وثائرات وأقلياتٍ من خارج الميليشيات، أو خارجين منها، ومن خارج البيئات الحاضنة للمذهبية والفساد الاجتماعي "العميق"، من رأس الدولة إلى أخمص أخمصها…
اليوم، ما عاد كافياً نعي الثورة والحديث عن دفنها. اليوم، يخرج من تراب الثورة نباتٌ سامٌ، هو الهجرة. هؤلاء الذين كان لديهم بعض الأمل، للمرّة الأولى منذ العام 1975، منذ 45 عاماً، هؤلاء هناك من "يتلفز" و"يتفنّن" في الإعلان عن "رحيلهم".
"أنا عارف إنك رح تضايني… بس انشالله نحنا نضاين" ✈#ست_الدنيا #بيروت 🖤
Gepostet von Nahla Nasser Dine am Donnerstag, 9. Juli 2020