بكركي الخائفة يحرّكها خطر وجوديّ وليس رأياً سياسياً
بكركي خائفة. وتتحرّك اليوم بدافع الخطر الوجودي، وليس بسبب اقتناعها بضرورة اتخاذ موقف سياسي، والانحياز إلى طرف لبناني دون آخر.
ليس العقل السياسي ما يحرّك بكركي، بقدر ما هي الغريزة الوجودية. الحاجة. الاضطرار. الضرورة. الخوف. وبالتالي ليس خياراً ما أقدم عليه البطريرك بشارة الراعي، بقدر ما هو طريق الخلاص الوحيد، وسط موجات متتالية وشبه قاضية، بدأت بيئة بكركي، المسيحية والوطنية، تتلقّاها.
بعد التحية والإعجاب، لا بدّ من البحث عن سبب تردّد بعض السياسيين "الأصليين" في الدعوة إلى الحياد، وتأخّرهم في إعلان دعم بكركي واللحاق بدعوتها.
ليس خافياً على أحد أنّ البطريرك الراعي، الذي خلف بطريرك الإستقلال الثاني، نصر الله صفير، في العام 2011، كان محسوباً على 8 آذار، في الوعي السياسي اللبناني. مقارنةً بسلفه، بدا الراعي أقرب إلى "مشرقية" ميشال عون، منه إلى "سيادية" صفير. وبدت بكركي، في عهده، كما لو أنّها تقوم بالتفاف تاريخي صوب الشرق. حصل هذا أيضاً في لحظة انسحاب أميركي من المنطقة، ووصول الدبّ الروسي إلى المياه الدافئة على ضفاف المتوسّط.
لم تخرج بكركي الراعي عن خطوطها الجديدة، حتّى تموز 2020. 9 سنوات أمضاها الراعي بعيداً عن شعارات السيادة والاستقلال. وهي كانت سنوات تقهقر معسكر 14 آذار واندثاره. وشهدت تلك السنوات بروز القوى المدنية بين "طلعت ريحتكم" في 2015 وثورة 17 تشرين الأوّل 2019، وبينهما تثبيت زعامة ميشال عون المسيحية في انتخابات 2018، بعد انتخابه رئيساً في نهاية 2016.
فما الذي تغيّر في 2020؟
قام "لبنان المسيحي" على أعمدة كثيرة، أبرزها: الجيش، والمصرف، والمؤسسات، تعليمية (مدرسية وجامعية) وخيرية وغيرها. كلّ هذه الأعمدة تضرّرت بشكل بليغ، وأصيبت برضوض، وربما بكسور، قد يكون صعباً التئامها قريباً.
فالمصارف بدأت رحلة "تشييعها" بشكل أو بآخر، بعدما كانت مسيحية، ومارونية. كذلك المدارس المسيحية، على أبواب الإفلاس، وعدد كبير منها أعلن إقفال أبواب كثيرة وفروع عديدة. كما لو أنّنا نشهد وداع "الدولة المسيحية العميقة"، في التعليم والمال، أي في "المال والبنون"، زينة الحياة الدنيا. ويبدو أنّنا أمام موجة هجرة مسيحية ومسلمة، قد تكون الأقوى والأخطر منذ تأسيس لبنان الكبير قبل 100 عام… لنصل إلى الجيش، الذي لطالما كان حامي المسيحيين وجيشهم، بين جيوش كثيرة مرّت على لبنان، من الفلسطينيين إلى الحرس الثوري الإيراني. والجيش الآن في مهبّ الريح، مع تحوّل رواتب كبار ضباطه إلى "فراطة" دولارات، تكاد لا تكفي لشراء الطعام والشراب فكيف بالعسكريين.
بكركي خائفة وتتحرّك لأسباب وجودية وليست سياسية. فقد شهد العام 2020 إعلاناً أميركياً صريحاً ببدء مواجهة تاريخية ونهائية مع حزب الله، من ضمن مواجهة شاملة ضدّ إيران في كلّ الدول التي مدّت أيديها وأظفارها في لحوم شعوبها، وأبرزها سوريا. وتبدو الظروف مشابهة لظروف العام 1981 و1982، حين قرّر "العالم" أن يطرد الفلسطينيين من جنوب لبنان ومن بيروت.
أيضاً قانون "قيصر" لا يمزح. وقد وجد الراعي بين كلّ هذه المصائب أنّ ميشال عون "أسير" حارة حريك التي انتخبته رئيساً. كذلك جبران باسيل، رئيس أكبر تكتّل نيابي مسيحي، "رهينة" حلمه بخلافة عمّه على كرسي قصر بعبدا. واقتنع الراعي أنّ الرجلين يسعيان إلى "مجد من رماد".
لعلّ كلمة "حياد" همس بها محنّك عتيق بالسياسة، في أذن بكركي وسيّدها. فهي استبعدت الحقل المعجمي لـ"الاستراتيجية الدفاعية" أو "نزع السلاح" أو حتّى "الحوار الوطني" حول السلاح. ذهب الحديث عن "حزب الله" الى المباشر بحيث صار هدفاً. طلب الراعي "الحياد"، المُصان في الدستور. وهو حياد ممكن في ظلّ وجود السلاح المدجّن داخل الدولة. هو أقرب إلى دعوة إيران للتخلّي عن "قرار الحرب والسلم" في لبنان. لكنّه غير ممكن باعتباره دعوة إلى الخروج من الحروب الأهلية العربية.
"الحياد" والحالة هذه يعني خروج حزب الله من أدواته الإقليمية. خروجه من سوريا بشكل نهائي ورسمي. ونفض حسن نصر الله يديه من أيّ أدبيات يمنية، وتخلّيه عن شعار "الموت لآل سعود"، وتخلّيه عن كلّ برامجه، المعلنة والسريّة، لأيّ نشاط في أيّ دولة عربية. وهذا كثير على الراعي وعلى بكركي. وهو ليس ممكناً طرحه إلا من ضمن "إجماع عربي ودوليّ" حول لبنان، قلّ نظيره، حتّى في عزّ موجات آذار 2005 الجماهيرية.
حين أخذ الراعي بكركي إلى التفافها نحو المشرق، ورفضها أن تكون رأس حربة غربية بوجه العلاقة مع الشيعة والعلاقة مع النظام السوري، كان الخيار "وجودياً" في ظلّ الانسحاب الأميركي وتزايد النفوذ الإيراني والسوري في لبنان والمنطقة. وكما في 2011 كذلك في 2020، الخيار اليوم وجوديّ أيضاً. ومصلحة المسيحيين تكمن في الوقوف بوجه حزب الله المتقهقر والمُحاصَر، واعتماد "الحياد" بينه وبين الهجمة العربية والدولية عليه.
بكركي اليوم هي مرجعية المسيحيين، ومواقفها حبل خلاصهم. وقد رأى فيها جزء كبير من اللبنانيين "واجهة" و"كتفاً" يمكن الاستناد عليه، في لحظة التعب الوطنية. وبدا الراعي "الرجل الرجل" في لحظة غياب القدرة والجرأة والشجاعة لدى زعماء الطوائف الأخرى، على مواجهة حزب الله. كلّهم خائفون من أن تطير رؤوسهم "فرق عملة" في زمن "تغيّر الدول". كلّهم يريدون حفظ رؤوسهم. وكلّهم لا يثقون بالأميركيين. وكلّهم يخشون أن "تبيعهم أميركا" كما باعت الأكراد حيناً، وكما باعت 14 آذار ذات 7 أيّار 2008، وكما باعت وباعت وباعت…
وحده الراعي، الذي لا يتقاضى راتباً من الدولة اللبنانية، كما هي حال المفتين المسلمين، وكما هي حال الشيخ عبد الأمير قبلان الذي هاجم الراعي وأدانه. قبلان الموظف، براتب من خزينة الدولة اللبنانية، والذي قرار انتخابه بيد "الثنائي الشيعي"، هو وابنه. وكلّ موظف له "مدير" يعطيه التعليمات. هذا ثابت في "البزنس" وفي السياسة. في حين أنّ الراعي ينتخبه أهل ملّته، ورواتب مطارنته وكهنته من خير مؤسساتهم وبيئتهم. وهنا يكمن الفارق كلّه.
وحدها بكركي مرجعية، مسيحية حيناً، ووطنية أحياناً كثيرة. وبكركي اليوم يحرّكها الخوف على الوجود. ولهذا السبب تحديداً، فإنّ الراعي لن يتراجع. بل إنّ صراخه سيعلو أكثر وأكثر، كلّما استشعر احتمالات "عقوباتٍ" جديدة قد تطال بيئته المسيحية، وكلّما استشعر أنّ حرباً كبرى يجري التحضير لها على مسرح المنطقة، ولا بدّ من تحييد المسيحيين عن أذاها، قبل أن يأتي جراد السياسة ويعيد المسيحيين 100 عام إلى الوراء.
بكركي خائفة. وحين تكون بكركي خائفة على وجودها ووجود المسيحيين، فلا تنفع معها زيارات سفير إيران أو هجمات وحملات صبيانية على مواقع التواصل الاجتماعي، لشتم البطريرك.
بكركي خائفة، وهي لن تخوض معركة انتحارية إلى جانب حزب الله، ولن تترك لميشال عون وصهره أن يقرّرا مستقبل المسيحيين في لبنان. ويبدو أنّ المعركة لم تبدأ بعد، والعرض سيكون شديد التشويق.