كرنتينا الشرق: لبنان المتروك ليتعفّن بالسلاح والأحقاد
منذ سنوات صدر قرار عربي، لم نقبل أن نصدّقه، بأنّ لبنان بات من الماضي، وأن "اتركوه لإيران". وكانت نشوة المصارف والفوائد وغسيل الأموال وسرقة المال العام، كافية ليتكوّم عشرات الآلاف حول حزب الله، يأكلون ويشربون من خيره، ويظنّون أنّه يكفي ليضمن لهم المستقبل.
بعدها صدر قرار أميركي وأوروبي، بأن "اتركوا هذا البلد ليتعفّن بفساده، وبعدها نرى". وظنّ حلفاء حزب الله والمحيطون به والطامعون برضاه وفتات إدارات الدولة التي يسيطر عليها، بأنّ الحزب هو المستقبل، وهو الضمانة، وهو القادر على تأمين مستقبل أولاد اللبنانيين، وما علينا إلا أن نقترب منه، وأن نتملّق له، وبعدها يفتح الله لنا أبواباً كًنّا نحسبها، من شدّة اليأس لم تُخلَق بمفتاحِ.
مرّت الأشهر، وجاع الناس، وشحّت الأموال، وانهار النظام المصرفي، وانهارت الليرة، و"ما عاد حدا يعطينا". نزل الناس إلى الشوارع، يتحدّثون عن فقرهم وجوعهم. صرخوا، ولم يسمعهم أحد. قالوا: "إنه الفساد"، وقلنا لهم: "إنّه السلاح". هذا الذي حكمَنا بالقوّة، وأدار الانتخابات بالقوّة، واعتدى على السوريين واليمنيين والعراقيين والكويتيين والمصريين، وكذلك على أمن أوروبا والأميركيتين وأفريقيا…
لكنّ الثوّار أصرّوا: "إنّه الفساد". لم يصدّقوا أنّ معركة تحرير لبنان من احتلال السلاح أبدى وأكثر أهمية من تحريره من الفاسدين. بل إنّ الفساد احتمى بالسلاح: "كُن مع السلاح وافعل ما شئت"، كانت المعادلة الذهبية التي حكمت لبنان منذ 20 عاماً.
واليوم لم يتغيّر شيء. اليوم نحن عالقون هناك. وزارة المالية يريدها السلاح. يريد تضييع الوقت ريثما تأتي الانتخابات الأميركية بعد 40 يوماً. تريد إيران ثمناً كبيراً لتسهيل الدور الفرنسي في لبنان، أو لتطبيق الرغبات الأميركية فيه. السلاح هو أداة إيران. السلاح الذي حمى الفاسدين، حلفاءً كانوا أو خصوماً. حمى منظومة الفساد كلّها، فلا يدخل حليف إلى السجن، كما لا يدخل خصم، طالما أنّ الإثنين يسبحان في مستنقع السرقة والهدر، تحت سقف السلاح وديمومته.
في الحارات المصرية الشديدة الفقر، التي تنقل إلينا صورها أفلام السينما، نرى زواريب ضيّقة، على اليمين عجائز يتعاطون مخدّرات رخيصة، مثل الطائفية، على اليسار فتوّة ومن حوله شبّان جاهزون ليَقتلوا أو يُقتَلوا، في سبيل أيّ أمر تافه، أو رغبة دنيئة، مثل عصابة، أو ميليشيا، ومثل طائفة غارقة بأحقادها التاريخية، ومنتشية بكوكايين العظمة الكاذبة. وكلما سارت الكاميرا، كلما رأينا أطفالا بثياب رثّة، جائعين ويحملون نظرات طويلة، وحزينة، ويائسة، ونساءً كلما زاد فقرهنّ، كلما صاروا عرضةً للبيع والشراء أكثر وأكثر. وكلما مشينا مع المشهد، رأينا البؤس في العيون، في الجدران المخلّعة، والسقوف الآيلة للسقوط…
لبنان متروك لهذا المصير. متروك ليتعفّن، كمخزن سلاح روسي عتيق، كمخزن أحقاد، كخطّ تماس شرب دماءً أكثر مما شرب من أمطار الشتاء. متروك ليكون مستودعاً للنازحين واللاجئين، من كلّ جنسيات المنطقة، والجالية الأكبر من اللبنانيين، السكان الأصليين، الذين لن تكون أحوالهم أفضل من غيرهم.
مخزن لاجئين وفقراء. القادرون سيخرجون، سيهرب الفقراء المعدمون في البحر، تحت خطر الموت على طريق الـ100 كيلومتر بيننا وبين قبرص. والمتعلّمون سيهربون للعمل في أوروبا والخليج وأميركا حين تتاح لهم الفرصة، وهي قليلة هذه الأيام. والذين لديهم عائلات في أيّ دولة، سيحاولون الالتحاق بهم. وسيبقى هنا الضعفاء والكسالى وقليلو الحظّ، ليتعفّنوا، لنتعفّن، كما تعفّن المرفأ حتى انفجر بالفساد أو الصواريخ أو الرسالة الإسرائيلية، لا فرق. المهمّ أنّه انفجر بالعفن، بكلّ ما تعفّن فيه على مدار 30 وربما 50 أو 70 عاماً.
وغداً قد ينفجر مرفق آخر، بحريق، أو بفضيحة، أو بانهيار، أو "بتلحيم"، قد يكون المصرف المركزي، وقد يكون الضمان الاجتماعي، وقد يكون المطار. فنحن متروكون للعفن. ذلك الذي كان يبرق، مثل بلاط مجليّ بالأكاذيب، مثل فوائد المصارف وشعارات الإصلاح والتغيير والمقاومة…