عباس ابراهيم: شُكرًا.. ومَهلاً
لعلّ اللواء عباس ابراهيم، المدير العام للأمن العام، هو القيادي الأمني الأكثر "شطارةً" في لعبة الإعلام. وإن كان للإعلام مع "الأمن العام" تاريخ طويل من "الشراكة"، المعلن منها والمكتوم، وفق لوائح "الصداقة" و"المحبّة" و"التسويق".
لكنّ اللواء ابراهيم ليس صنيعة هذه اللوائح فقط. هو يعرف أين يطلّ ومتى. ويعرف كيف يبعث الرسائل، وكيف يمشي على أطراف المنحنيات السياسية، فلا يقع، ولا يبتعد أكثر مما يجب. لهذا تراه قادراً على التواصل مع أبعد البعيدين، وأقرب القريبين، من موقعه كـ"جناح أمني رسميّ، من داخل الإدارة"، لـ"الثنائي الشيعي".
ولهذا كانت التسريبات عن عقوبات أميركية قد تطاله، شديدة الوطأة عليه، لأنّها كانت ستفقده "ميراثه" الأمني والسياسي، الذي بناه تفاوضاً تفاوضاً، وملفاً ملفاً، حتى صار عرّاب تحرير الأسرى، أينما كانوا، بشبكة علاقاته التي تمتدّ إلى ما وراء البحار، وصولاً إلى واشنطن.
من "الحرّة" أطلّ، حاملاً رسالتين في السياسة والأمن، واحدة له يُشكر عليها وتُرفع له القبّعة، وواحدة عليه، ينبغي أن يراجع دفاتره حولها وأن يتراجع عنها إذا أمكن.
أما التي له، فهي فتحه النقاش، من الشاشة الأميركية، التابعة لإدارة الرئيس جو بايدن، حول "الاستراتيجية الدفاعية"، تلك التي اتُّهمَ الزميل قاسم قصير بـ"الخيانة" حين تحدّث عنها منتصف الشهر الماضي.
وقد حرص الفريق المحيط باللواء ابراهيم، على توزيع النصّ الحرفي لما قاله عن "الاستراتيجية الدفاعية"، الذي حرص خلاله على أن تكون "محلية" قائلاً: "لازم نروح على استراتيجية دفاعية، يجتمع كل الأطراف اللبنانيين حول طاولة ويلاقوا مخرج لهذا الموضوع". وحرص على التأكيد أنّه "لم يناقش حزب الله في هذا الشأن".
لكنّ العارفين يعلمون جيّداً، أنّ رسالة على هذا المستوى، وبهذا العمق، وفي هذا التوقيت، وعلى هذه الشاشة، ومن هذا الرجل، ليست بالتأكيد من بنات أفكاره. وحدَه على الأقلّ. وفي أفضل الأحوال، سيقال أنّها "صنّارة" يرميها حزب الله إلى الأميركيين، ضمن شبكة العصي والجزر التي بدأ الإيرانيون يتبادلونها مع الأميركيين، من اليمن إلى العراق مروراً بسوريا، وصولاً إلى لبنان.
يستحقّ اللواء ابراهيم الشكر، على مبادرته إلى طرح ما كان طرحه كثيرون من قبل، دون نتيجة. أحدهم النائب نهاد المشنوق، حين كان وزيراً للداخلية، وممثّلاً للبيئة السنية في السلطة، طوال خمس سنوات، بين 2014 و2019، في عزّ "ربط النزاع". في حين أعلن أنّ الاستراتيجية الدفاعية ستناقش "بعد الانتخابات النيابية في أيّار 2018".
كذلك فصل رئيس الجمهورية ميشال عون، في 2018، بالقول إنّها "ستكون موضعَ بحث بين القيادات اللبنانية بعد الانتخابات النيابية، التي ستنبثق منها حكومة جديدة". وما لبث أن غيّر رأيه في آب 2019 معلناً "تغيّر مقاييس الاستراتيجية الدفاعية"، ليكمل مكتبه رئاسة الجمهورية الإعلامي التوضيح أنّه "بعد 10 سنوات من التطوّرات العسكرية… وبعد دخول دول كبرى وتنظيمات إرهابية في حروب الدول المجاورة، كلّ هذا أحدث تغييرات في الأهداف والاستراتيجيات لا بد من أخذها في الاعتبار".
يفتح اللواء ابراهيم سيرة "الاستراتيجية الدفاعية" اليوم من شبّاك شيعي، يطلّ على الإدارة الأميركية، ويعلن أنّ "الثنائي الشيعي" حاضر لمناقشة السلاح، شرط أن يكون "نقاشاً داخلياً". وهي رسالة كبيرة إلى المفاوض الأميركي، بأنّ سلاح حزب الله ليس ضمن دائرة "النفوذ الإيراني"، بل هو "مسألة داخلية لبنانية".
طرابلس و"داعش"
أما الملفّ الذي يُحسب عليه، فهو قوله إنّ تنظيم "داعش"، و"بعد مقتل البغدادي، نام وتراجع حضوره وأداؤه وحضوره الإعلامي، ومنذ فترة بدأنا نسمع وعوداً من معتقلي هذا التنظيم في مخيمات المناطق الكردية في سوريا بأنّهم سيأتون إلينا.. وبعد فترة وقعت التفجيرات في العراق، ثم زاد نشاط داعش في المناطق السورية التي كانوا يسيطرون عليها من قبل"، ليخلص إلى التحذير: "نحن لسنا في جزيرة معزولة، ولبنان سيتأثر بهذا الموضوع ونحن نتحسّب لهذا التأثّر. نحن والأجهزة الأمنية الباقية أخذنا كلّ الاحتياطات والإجراءات لمنع دخول داعش مجدّداً إلى الساحة اللبنانية، إنّما للأسف للأسف، ما يحصل في طرابلس قد يكون فرصة لهؤلاء لإعادة الدخول إلى الساحة اللبنانية".
يلعب اللواء ابراهيم أدواراً سياسية كثيرة. لكن في ما يخصّ الأمن، لا يحقّ له، كمدير جهاز أمنيّ، أن يسمّي مدينة طرابلس، في سياق قراءته لـ"عودة داعش" إلى لبنان. وهي عودة كانت سوّقت لها وسائل الإعلام القريبة من حزب الله منذ شهر تقريباً.
لا يحقّ له لسبب بسيط، وهو أنّه لم يقدّم أيّ أدلّة، ولا وثّق قراءته بأسماء أو أرقام أو أحداث، تدلّ على أنّ داعش وصلت إلى لبنان، وتنطلق من طرابلس. وهو يعرف أنّ البيئات السنية في لبنان لم تكن يوماً بيئات حاضنة للفكر المتطرّف. والبيئة التي لم "تدعشنها" ثورة سوريا، الجارة، في عزّ قوّة داعش وانفلاشها على معظم سوريا والعراق، لن "يدعشنها" تفجير انتحاري في العراق، ولا "تنشيط" خلايا مشكوك في هويات منشّطيها، بين اليمن وسوريا.
خرج اللواء ابراهيم عن النصّ الأمني الذي في جعبته، وخرج عن دوره السياسي، في اعتباره أنّ صرخات ثوّار طرابلس، وجائعي طرابلس، وفقراء طرابلس، تمهّد الأرضية لعودة "داعش" إلى لبنان. وهذا اتهام يقارب الإدانة. لأنّ أهل طرابلس يعانون من الفقر منذ عقود، ولم يمدّوا عقولهم إلى "حرام" التطرّف ولا أيديهم إلى "حرام" الداعشية.
رسالتان من اللواء ابراهيم. تُحسب له الأولى، وتُحسب عليه الثانية، فـ: شكراً… ومهلاً.