لحوار بدل التخوين: استراتيجية دفاعية وإلغاء الطائفية
حزب الله اتّخذ قراراً بمواجهة بكركي. فأطلق رشقات استطلاعية من فم المفتي أحمد قبلان، وطلقات تحذيرية من جسر الرينغ أمس الأوّل، بعد ساعات من كلمة البطريرك بشارة الراعي. وكانت تلك المرّة الأولى التي "يحتلّ" شبّان حزب اللهيون جسر "الثورة" ويحرقون عليه إطارات سيارات.
لكنّ الأوان لا يزال مبكراً قبل الحكم على أنّ هذه هي سياسة الحزب بمواجهة دعوات الراعي إلى الحياد والمؤتمر الدولي. الراعي الذي حاول قدر الإمكان أن يدوّر الزوايا مع الحزب، وأن يطمئن حزب الله بجمل واضحة منها مطالبته المؤتمر الدولي الذي ينادي به "بوضع خطة تنفيذية سريعة لمنع التوطين الفلسطيني ولإعادة النازحين السوريين آمنين إلى ديارهم"، وبقوله: "لا نريد من المؤتمر الدوليّ جيوشًا ومعسكرات".
لكنّ ردّ المفتي أحمد قبلان جاء قاسياً، وباللغة العسكرية، فهو استعمال "غير متناسب" للقوّة. إذ ذهب إلى أنّ "الحياد في زمن الاحتلال الإسرائيلي وداعش ليس وطنياً، بل أعتقد أنّه ما زال خيانة".
قاسٍ هذا الكلام، خصوصاً إذا كان موجّهاً إلى بكركي وبطريركها. بكركي التي كانت وراء إنشاء لبنان، ووقفت بوجه محاولات تقسيمه، ووافقت على اتفاق الطائف حين رفضه المسيحيون كلّهم تقريباً، وتقول اليوم كلاماً متوازناً عن الحياد. فما هكذا يكون الردّ، وليس بهذه اللغة التخوينية التي لم ولن تؤدّي إلى أيّ حلّ في لبنان. والبطريرك ليس مسؤولاً عن الهتافات التي حُمّلت لنصّه. النقاش يكون حول النصّ الذي قاله بعيداً عن الـ"contexte" البصري والسمعي.
لكنّ كلام المفتي قبلان الذي سبق كلمة "خيانة" في سياق النقاش. قال: "من يريد تثبيت الكيان اللبناني يقبل بدولة مواطنة، وبرأس تنفيذي واحد لا برؤوس وطوائف، وتجديد النظام الديمقراطي يبدأ بانتخابات نيابية شعبية بعيداً من القيد الطائفي".
هكذا كلّما رفع بعض اللبنانيين مطلب "الحياد" أو ذهبوا إلى مناقشة السلاح، يرفع قادة الشيعة شعار "إلغاء الطائفية السياسية" في ما يشبه التهديد غير الجدّي.
لكن بعد عقود من هذا التراشق، بات جليّاً أنّ التسوية الكبيرة التي يمكن أن تنتج، التسوية التاريخية، هي مزيج من هذين المطلبين، تحت عنوان تأسيسي جديد للبنان، على الأقل من وجهة نظر شيعية.
لا بكركي خائنة، ولا المفتي قبلان يمكن رمي كلامه في سلّة مهملات السياسة اللبنانية ما عدا تعبير الخيانة. وإن كان كلام قبلان ممزوجاً باستقواء وانتفاج في أوداج اللغة، سببه الصواريخ والمقاتلين المدجّجين في بيئته، في حين أنّ كلام بكركي يعكس مدى التردّد الذي أصاب فريق 14 آذار. فريق يقف الراعي على قمّته دون أن يكون إلى جانبه أيٌّ من قادة "الحرية والسيادة والاستقلال" السياسيين، علناً على الأقل ما عدا سمير جعجع وفارس سعيد.
الأهمّ أنّ حزب الله فهم أنّ بكركي لم تكن بوارد المزاح. ويريد الحزب من ردّ قبلان القول إنّه متوتّر من هذه الدعوة. لكن لا سبيل إلا بالحوار. حوار مباشر مع بكركي، التي هادنت الحزب في تخلّيها عن مطلب "تحرير الشرعية". وهو ما يعني تراجعها عن احتمال انضمامها إلى المطالبين باستقالة رئيس الجمهورية ميشال عون.
ومع تراجع بكركي خطوة، على حزب الله أن يلاقيها بالتراجع خطوة. والحوار يجب أن يضمّ اللبنانيين كلّهم، لا أن يكون ثنائياً بين بكركي وحارة حريك. فهذا شأن تأسيسي وليس ثنائياً.
أما الحديث عن داعش فهو ملتبس وغير مبرّر لأنّ داعش باتت "غبّ الطلب". لكنّ حماية لبنان من العدوّ الإسرائيلي مطلوبة وضرورية. وهي لا تكون بتكديس الصواريخ، ولا بالمشاركة في الحروب والاعتداءات على الدول العربية، ولا باستعمال السلاح في الداخل اللبناني… بل أوّلاً وأخيراً بإيجاد بيئة تحمي السلاح وتجمع اللبنانيين حول "فكرة"، لطالما كانت موجودة قبل العام 2000. ومن كان يرفضها إما كان يخفيها، أو كان يهمس بها خجلاً من دماء المقاومين ومن الأراضي اللبنانية التي كانت مُحتلّة.
حماية "القوّة" التي يملكها حزب الله يكون بتحويلها إلى رصيد لبناني، وحماية السلاح تكون بالتفكير في كيفية التفاف اللبنانيين من حوله، وذلك بالاتفاق على استراتيجية دفاعية وطنية. فليس المطلوب تسليم السلاح، ولا استسلام حزب الله، ولا الذهاب إلى حروب أو اعتداءات تحت الفصل السابع، ولا المزيد من القتل والاغتيالات والتقاتل.
بكركي ليست خائنة. وعمامة المفتي قبلان ليست إرهابية. من هذه النقطة يبدأ النقاش.
والنقاش حول استراتيجية دفاعية وحول البدء بمسار إلغاء الطائفية السياسية هو الطريق الوحيد الممكن حالياً وسط كلّ الانهيارات التي نعيشها.