حملتنا أشجار الصنوبر والسرو، وحملّتنا بهواء نظيف، يبشر بليلة نظيفة، بعيداً من لوثة النظر والسمع والشمّ، بعيداً من اسمنت بيروت المزدحمة وأبواق السيارات وفوضى الموسيقى المنبعثة من راديواتها.
هنا، في بيت الدين، ستغني فيروز هذه السنة، في إطار "مهرجانات بيت الدين"، هنا أيضاً، لا فرق بين فيروزي وآخر، إلا بالبطاقة. "إنتو قاطعين"، "لأ". "متلنا يعني"، "إيه". أصوات ضحك متقطّع. مشهد تكرر كثيراً، بصيغ مختلفة. فذاك قطع بطاقتين، لكنه أضاعهما. وآخر قطع بطاقة خارجية، ليستمع إلى فيروز من خارج بيت الدين وآخر نسي البطاقات في البيت أو أعطاها إلى أحد أصدقائه الذين "حرقوا قلبه". إلى ما هنالك من نكات أطلقها المئات من القادمين إلى بيت الدين من دون بطاقات. على كل حال، لا نسمع للأزمة الاقتصادية أن تكون حاجزاً بين صوت فيروز وصداه في آذاننا.
فجأة، شيء ما تغير. إذ يتقدم أحدهم يحمل بطاقات، ويمد إحدى الصديقات ببطاقتين صغيرتين زرقاوين، تختلفان عن البطاقات ذات اللون الزهري، التي تخوّل صاحبها الدخول إلى الجنة.
الصديقة كانت قد اشترت بطاقتين ليوم الغد، لكنها جاءت مع الشعب المسكين، لتمارس الطقوس الفيروزية السنوية، لأمثالنا، أي ذلك الاستماع المجاني.
بعد أسئلة خجولة ومترددة، نتوصل إلى أنّ هذه البطاقات تعطى لمن يخرج من مكان الحفل، لكي يستطيع العودة، وقد غشّ هذا الميسور الحراس، وعاد ودخل بالبطاقة الأصلية، تاركاً بطاقتين زرقاوين، واحتمالاً فيروزياً متردداً بين المخاطرة والاكتفاء بما هو مقرر.
هذه الصديقة تضامنت مع أحوالنا، ومدتنا بالاحتمال، فتوجهنا بعد ذلك، بوقار، إلى مدخل الحفل، أبرزنا البطاقات. أخذها الحارس من دون أن يسال. نمر. بابٌ آخر. حراس آخرون "أين البطاقات"، "جوّا مع رفقاتنا". نمر مرة أخرى. الكذب باتت أكبر. نصل إلى حيث الشبان والشابات بلباس الكشافة. مخولين تنظيم وإرشاد كل إلى كرسيه. هنا وجدنا أنفسنا بلا بطاقات و "رفقات جوّا". لكن التراجع بات صعباً، بل أشبه بالانتحار. والدوريات الراجلة لقوى الأمن الداخلي، دفعتنا إلى الاحتماء بالصف الطويل لطالبي الخلوة وراحة الضمير في الحمامات. ويمر موكب لأحد الضباط الكبار، ويسأل: "شو هول؟". فيجيبه أحد المرافقين: "هون الحمامات". نلاحظ أنّ حوالي خمسة شبان ينتظرون مثلنا، وكلما حان دورهم، تراجعوا إلى آخر الصف، كما نفعل أنا وصديقتي. وينظرون يميناً وشمالاً بطريقة مثيرة للشكوك. تمر يضع دقائق، قبل أن يصدّق هؤلاء الشباب أننا زملاء في "الزميطة" وشركاء في المصير.
يخبرنا أحدهم أنهم يعرفون شخصاً في الكشافة، وهو وعد بإجلاسهم عند شغور أي مقعد! وفي حال تغيب بعض المدعوين. لكن هذه المرة، "كله complet" يبشرهم هذا الشخص.
في هذه الأثناء، علا تصفيق حار تلاه صوت ألهمنا كل هذا التصميم، على الدخول إلى هنا: "في قهوة ع المفرق، في موقدة..". كنا قد عدنا للاصطفاف خارج الحمامات، لكن هذه المرة، لا أحد يتقدمنا، نصطف فقط من دون أن ننتظر، أو أن نقف وراء أحد. عددنا كان كافياً لتشكيل "عجقة" إذ كنا سبعة.
وهنا توزعنا على ثلاث مجموعات، لنرى إلى أي مدى نستطيع الاقتراب ورؤية هذا الطيف الذي يغني. ونعود ونلتقي بعد دقائق خائبين، وتعود المجموعة الثالثة، لتبشر بأنّ بعض المنظمين والمشرفين يجلسون قرب المسرح، من دون مضايقة الأمن لهم. فنتوجه إلى هناك. ونفترش الأرض على أنغام "ارتاح".
لم يعترضنا أحد. فقد سلكنا طريقاً آخر إلى فيروز. لم أرها. لأننا جلسنا إلى يسار المسرح. وكان قائد الفرقة حاضراً بيننا وبينها. فلتعذرنا فيروز، لأننا لم ندفع ثمن البطاقات، فقد كان صوتها الدافئ دليلاً، إلى طريق من نوع آخر، لم نرها. ولم ندفع، لكن سمعنا.
هناك، حيث جلسنا، كان أحد الزملاء، يسجل الحفل على مسجلة صغيرة. على كل حال، هذا موضوع آخر، لا علاقة لي به.