عودة مصر (2): تأسيس مشروع عربيّ.. بـ"الدولة الوطنيّة"
يتداول مثقفون، عرباً وأجانب، أنّ في المنطقة عدداً من المشاريع: المشروع الإسرائيلي، والمشروع التركي، والمشروع الإيراني… في غياب أيّ مشروع عربي.
الأوّل الاسرائيلي بدأ يبتكر لنفسه مدىً حيوياً لا يبدأ من توأمة مرفأ حيفا في اتفاق 25 عامٍ مع الصين، ولا ينتهي بفتح الأسواق الخليجية من خلال مشروع التطبيع مع عدد من الدول العربية.
الثاني التركي بات يمدّ أيديه وفق حلمه "العثماني" الكبير، من كراباخ على حدود إيران، إلى محاولاته الليبية، مروراً بقطر وإدلب، وصولاً إلى جس نبض شمال لبنان، وها هو يوسّع مرابضه المستوردة إلى اليمن، بتنسيق مع المملكة العربية السعودية.
والثالث الإيراني حدّث ولا حرج، فهو الأكثر انتشاراً، ويتباهى جنرالاته بأنّهم يسيطرون على 4 عواصم عربية، هي بغداد وصنعاء ودمشق وبيروت.
عن وفي مصر، ستسمع كلاماً مختلفاً. هناك مشروع عربي بدأت مصر في العمل عليه منذ سنوات.
إذا كان الفرس قد اشتهروا بأنّهم يصنعون السياسة كما يصنعون السجّاد، خيطاً خيطاً، وبصبر وطول بال، وعلى مدى عقود، ليحصدوا "خلوداً" في المُنتج، ومتانةً لا تُضاهى، وبثمنٍ عالٍ، فإنّ المصريين يعتمدون سياسة "الهرم الكبير"، أي أنّهم يبنون عظمتهم بصبر أين منه صبر السجّاد العجمي، وبمتانة الصخور العملاقة، وبما لا يُقدّر بثمن، وإنجازاتهم يمكن رؤيتها من الفضاء، كما الأهرام. فهم ملوك دلتا النيل، وبُناة السدّ العالي، وحرّاس قناة السويس، وقبل ذلك هم مهندسون، ليبنوا السدود ولـ"يحكموا النهر" الذي كان يفيض عليهم، فأخضعوه.
مشروع مصر هو العمل على "استعادة العرب زمام المبادرة التاريخية"، وذلك من خلال دول وطنية قوية، تتشارك ضمن إطار عربي فاعل.
هي العروبة إذاً، لكن العروبة "الوطنية"، أي تلك التي تخرج من الوعي الأوّلي، إلى الوعي المُكتسب. وبكلام آخر، تقوية الدول التي تجتمع حول الهوية الوطنية، وليس الهويّات المذهبية أو الإثنية أو العرقية أو المناطقية.
هذا الكلام قاله الرئيس السيسي من على منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول 2016. دافع عن الدول العربية الوطنية، واعتبر أنّ "الإرهاب" هو العدوّ وأنّه "في العقول يجب أن تُبنى حصون السلام". وكشف عن رؤية جديدة لمصر تقوم على "ارتباط الأمن القومي العربي، بما فيه أمن الخليج العربي، بأمن مصر". وهو وعي مصريّ جديد في تاريخها الحديث، منذ خروج الناصرية من شوارع المدن العربية.
كان هذا إعلاناً، من على منبر الأمم المتحدة، لمشروع عربي يتجاوز مصر، ويعيد إليها دورها كـ"قلعة العروبة"، بعدما فقدت هذا الدور، أوّلاً بالسلام مع إسرائيل الذي أبرمه أنور السادات، وجعل مصر تخسر قلوب العرب، وثانياً بمشروع "مصر أوّلاً" الذي انتهجه مبارك طوال 30 عاماً من حكمه.
في تلك الكلمة تحدّث عن ضرورة إيجاد حلول في ليبيا وسوريا واليمن، ودعا إلى سلام ينهي الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين وفقاً لقرارات الشرعية الدولية، وصولاً إلى رؤيته في أفريقيا، بين بوروندي والصومال والسودان. ترافق ذلك مع خطّة عملية تنفذ في كثير من المجالات محقّقة "مصر دائماً" في البنية التحتية، تبدأ من القاهرة ولا تتوقف في اتجاه كلّ محافظات المئة مليون مصري. هذا إذا صدق العدّ.
كلّ الحلول الإستراتيجية، التي طرحها، تستند إلى حماية "الدولة"، في ما يبدو أنّها السياسة المصرية الجديدة. "الدولة الوطنية" دولةٌ فوق العواطف القبلية والمرجعيات المذهبية التي لم توصل إلا إلى "حروب مساقط الأمطار ومراعي الإبل". الدولة التي تغرف من الحداثة وتتجاوز الانتماءات "الأوّليّة" إلى هوية مشتركة، يمكن من خلالها الانتساب إلى العروبة الحديثة.
والدليل على صدقية هذا العقل المصري، هو كيفية تعامل "الدولة العميقة"، منذ عهد مبارك إلى عهد السيسي، مع الملفّ السوري. وكان الحفاظ على "الدولة" هو الأساس، لئلا تلحق سوريا بالعراق، بعد تفكيك الدولة والجيش.
هذا هو المشروع العربي الذي يبدو أنّه يولد في مصر. مشروع يواجه العصبيات التي تتّكىء عليها المشاريع الأخرى، المذكورة في السطر الأوّل من هذا النصّ، بالحفاظ على "الدول الوطنية"، لتكون نواة القوّة العربية في المستقبل.
في الحلقة الثالثة غداً: هل مصر دولة "سنّيّة" فقط؟