البلد – محمد بركات https://www.mohamadbarakat.com Sun, 26 Jan 2020 19:16:11 +0000 ar hourly 1 https://wordpress.org/?v=5.5.15 https://www.mohamadbarakat.com/wp-content/uploads/2019/03/ico.png البلد – محمد بركات https://www.mohamadbarakat.com 32 32 غاضبون ونازحون بلا أحزاب ولا تنظيمات https://www.mohamadbarakat.com/2016/07/31/%d8%ba%d8%a7%d8%b6%d8%a8%d9%88%d9%86-%d9%88%d9%86%d8%a7%d8%b2%d8%ad%d9%88%d9%86-%d8%a8%d9%84%d8%a7-%d8%a3%d8%ad%d8%b2%d8%a7%d8%a8-%d9%88%d9%84%d8%a7-%d8%aa%d9%86%d8%b8%d9%8a%d9%85%d8%a7%d8%aa/ https://www.mohamadbarakat.com/2016/07/31/%d8%ba%d8%a7%d8%b6%d8%a8%d9%88%d9%86-%d9%88%d9%86%d8%a7%d8%b2%d8%ad%d9%88%d9%86-%d8%a8%d9%84%d8%a7-%d8%a3%d8%ad%d8%b2%d8%a7%d8%a8-%d9%88%d9%84%d8%a7-%d8%aa%d9%86%d8%b8%d9%8a%d9%85%d8%a7%d8%aa/#respond Sun, 31 Jul 2016 14:50:27 +0000 http://www.mohamadbarakat.com/?p=468 حين يقع اسم قانا على آذان المستمعين إلى الراديو، أو ينطح وجوه المتفرجين إلى تلفزيون، أو حين ينقل خبر المجزرة من شخص إلى آخر، السؤال الأوّل الذي يخطر على بال المتلقي: "مرة ثانية؟". تعود به الذاكرة إلى العام 1996، حين كانت مجزرة قانا، التي ارتكبها الاسرائيليون أنفسهم، خاتمة أحزان العدوان الاسرائيلي، ومقدمة لتفاهم نيسان.
فوراً يتذكر المتلقي أنّها ليست المرّة الاولى، وقبل أن يحزن، يتفكّر كيف انّ من نجوا من تلك المجزرة، قد وقعوا في هذه الجديدة، وربما يكون الشهداء الجدد أقرباء او اخوة أو أهل الذين سبقوهم. ويخطر على البال أيضاً أنّ هذه القرية حفرت اسمها عميقاً عميقاً في تاريخ حروب لبنان المديدة.

Zoom Property
هكذا كان وقع الخبر على مئات الشبان الذين دفعهم الغضب والحسرة والرغبة في فعل شيء إلى التوجه نحو الاسكوا للتنفيس عن إحساسهم بالعجز أمام صور القتلى، نساء وأطفالا.
شبان عاديون
كثيرون، وكلّهم رفضوا ذكر اسمائهم، تتراوح اعمارهم بين الـ15 والـ25 كحد أقصى. لا ذقون طويلة لأحد منهم. لا ثياب ملتزمة. كنزات وسراويل تدلّ على أنّهم أناس غير محزّبين. ليسوا حزبيين إذا، ولا يبدو على وجوههم أنّهم "مندسون". هم غاضبون عفويون تداعوا إلى وسط يعرفون أنّه سيستقبلهم. وأيضاً هم شابات وشبان، نازحون في معظمهم، إلى مدارس قريبة من الإسكوا أو بعيدة عنها نسبياً، لكنّها تبقى ضمن نطاق كيلومترات بيروتية. شبان طردهم الإسرائيليون من الجنوب أو من ضاحيته الجنوبية قبل اسبوعين واكثر.
غضبان
ومنذ ذلك الوقت يعيشون في المدارس. حيث المياه شحيحة، والطعام يوزع عليهم، ولا يكسبونه بأيديهم، ولا وسائل ترفيه تبعدهم عن أخبار العدوان عليهم، ولا تتوافر بين أيديهم أيّ وسيلة ليعبّروا عن رفضهم ما يحصل، أو ليشاركوا في المعاناة، سوى نزوحهم القسري وعيشهم السقيم في مراكز النزوح. المراكز التي لا تتوافر فيها أبسط مقومات العيش اليومي، لأنّها مدارس وبنيت لتكون مدارس وفقط.
مجموعة من الاسباب تحركهم اذا، وليس غضبا واحدا. غضب النزوح، وغضب الحياة السقيمة، وغضب مشاهدة القتل، وغضب العجز عن التأثير في ما يجري، وغضب من المواقف الدولية، وغضب من مواقف الامم المتحدة، وغضب أخير من مجزرة قانا التي ذكرتهم بقانا الأمم المتحدة قبل عقد كامل.
العلم والسفارة
"الاسكوا من تمثّل؟"، يسألك شاب، ويجيب: "الأمم المتحدة". "والأمم المتحدة من يحركها؟"، ويجيب: "الولايات المتحدة الأميركية". ثم يسأل: "والولايات المتحدة من تدعم؟"، والإجابة: "اسرائيل". ويخلص إلى أنّ هجومه، هو وزملائه الغاضبين، على مبنى الاسكوا هو هجوم "على السفارة الإسرائيلية في لبنان".
سننام هنا
يحكي الشبان كيف اقتحموا المبنى بعدما حطموا زجاجه الحامي، وكيف تنقلوا بين الغرف وحطموا ما استطاعو إليه سبيلا. ويحكون كيف جرح بعضهم يداً أو قدما في عملية التحطيم الفوضوية. ويريك أحدهم جرحاً طفيفا في يده مثلا.
ويحكون كيف خرجوا من المبنى نزولاً عند رغبة "الزعيم نبيه بري ورجال الأمن الذين يأخذون الأوامر من السيد حسن نصرالله"، وفي ذلك إشارة إلى نداء الرئيس نبيه بري بضرورة وقف العنف وإلى تدخل رجال أمن من "حزب الله"، الذين طلبوا من المتظاهرين التراجع عن المبنى.
في الجانب الآخر من وسط بيروت، اعتصام بدأ ليل أمس، بمبادرة من فنانين ومثقفين وإعلاميين، يطالب بوقف إطلاق النار وعودة النازحين وتحقيق دولي في المجازر الاسرائيلية. مجموعة من الأصدقاء تداعوا إلى سفح تمثال الشهداء وحملوا لافتات منددة بالعدوان ويحضّرون لجعل اعتصامهم دائماً، ليلاً ونهاراً، إلى حين وقف العدوان. لكن بلا تحطيم ولا عنف.
وسطان في بيروت إذاً. وسطان عفويان بلا تنظيمات ولا أحزاب. لكن هذه المرة الهدف واحد والقضية واحدة: وقف الحرب، عودة النازحين، والاحتجاج على المجازر. وسطان، لا فرق. المهمّ أن الوجع واحد والقضية واحدة.

]]>
https://www.mohamadbarakat.com/2016/07/31/%d8%ba%d8%a7%d8%b6%d8%a8%d9%88%d9%86-%d9%88%d9%86%d8%a7%d8%b2%d8%ad%d9%88%d9%86-%d8%a8%d9%84%d8%a7-%d8%a3%d8%ad%d8%b2%d8%a7%d8%a8-%d9%88%d9%84%d8%a7-%d8%aa%d9%86%d8%b8%d9%8a%d9%85%d8%a7%d8%aa/feed/ 0
ثلاث ساعات بين عادل إمام ونيكول سابا والرسم على الدفاتر https://www.mohamadbarakat.com/2005/06/22/%d8%ab%d9%84%d8%a7%d8%ab-%d8%b3%d8%a7%d8%b9%d8%a7%d8%aa-%d8%a8%d9%8a%d9%86-%d8%b9%d8%a7%d8%af%d9%84-%d8%a5%d9%85%d8%a7%d9%85-%d9%88%d9%86%d9%8a%d9%83%d9%88%d9%84-%d8%b3%d8%a7%d8%a8%d8%a7-%d9%88%d8%a7/ https://www.mohamadbarakat.com/2005/06/22/%d8%ab%d9%84%d8%a7%d8%ab-%d8%b3%d8%a7%d8%b9%d8%a7%d8%aa-%d8%a8%d9%8a%d9%86-%d8%b9%d8%a7%d8%af%d9%84-%d8%a5%d9%85%d8%a7%d9%85-%d9%88%d9%86%d9%8a%d9%83%d9%88%d9%84-%d8%b3%d8%a7%d8%a8%d8%a7-%d9%88%d8%a7/#respond Wed, 22 Jun 2005 16:01:01 +0000 http://www.mohamadbarakat.com/?p=277 أكثر من ثلاث ساعات قضاها عشرات الصحافيين في انتظار انتهاء "لقاء عين التينة". بعضهم ناقش جميع المواضيع السياسية الممكن مناقشتها في ساعتين، بدءاً من عين التينة نفسها وصولاً إلى أدغال الأمازون وصحارى موريتانيا، وبعضهم انشغل بالتحدث على الهاتف المجاني في غرفة الصحافيين، والذي تحوّل إلى ما يشبه الباص، راكب يصعد وآخر ينزل.
وانشغل جزء ثالث من الصحافيين بمتابعة فيلم "التجربة الدنمركية" للنجم المصري عادل إمام وفتاته اللعوب، اللبنانية الوطنية، نيكول سابا، في غرفة الصحافيين أيضا، حيث وضع تلفزيون لتسلية المنتظرين. وقد وزعت عليهم لإتمام طقوس السينما، حلوى الـ"petit four" وكؤوس العصير، قبل أن توزع عبوات المياه، وأخيرا وزعت أسماء الحاضرين وكلمة الرئيس نبيه بري التي تلاها على الحاضرين قبل بدء اللقاء.
وفيما انشغل الصحافيون في الأحاديث الجانبية والتلفون، وانشغل المصورون في تثبيت كاميراتهم، بدا أنّ عشرات الحاضرين من رؤساء أحزاب ونواب ووزراء، أمضوا الساعات الثلاث في الرسم على الأوراق التي أعطيت لهم ليكتبوا عليها ملاحظاتهم أو مداخلاتهم أو اقتراحاتهم.
أحد الوزراء رسم بيتا صغيرا على دفتره، وأضاف إليه أسماء المرشحين إلى "لجنة متابعة لقاء عين التينة"، التي يذكر اسمها بـ"لجنة متابعة لقاء البريستول". فيما رسم آخر مجموعة من الدوائر ملأها بالمربعات، ورسم ثالث مستطيلات وخرطش في داخلها، فيما بقيت بعض الدفاتر "يا ربي كما خلقتني"، حتى أنها لم تطوَ، أي أن أصحابها المفترضين لم يفتحوها حتى، لا للكتابة ولا للرسم على غرار زملائهم الوزراء والرؤساء والنواب.
وقرب غرفة الصحافيين، لوحظت حركة كثيفة للمجتمعين نحو الحمامات، تلقفها الصحافيون بفرح لاستنطاقهم، أي المجتمعين، حول أجواء الجلسة وأبرز محاور الحديث فيها. وفيما تسابق الصحافيون لانتزاع بعض التصاريح السريعة قبل دخول هذا السياسي أو ذاك إلى الحمام، انتظر آخرون خروجهم مرتاحين لسؤالهم، وعلق أحد الصحافيين: "شو قصتهم عم ينزلوا مزحومين من الإجتماع".

]]>
https://www.mohamadbarakat.com/2005/06/22/%d8%ab%d9%84%d8%a7%d8%ab-%d8%b3%d8%a7%d8%b9%d8%a7%d8%aa-%d8%a8%d9%8a%d9%86-%d8%b9%d8%a7%d8%af%d9%84-%d8%a5%d9%85%d8%a7%d9%85-%d9%88%d9%86%d9%8a%d9%83%d9%88%d9%84-%d8%b3%d8%a7%d8%a8%d8%a7-%d9%88%d8%a7/feed/ 0
من عبادة الشيطان إلى التدين السلفي وتكفير المجتمع https://www.mohamadbarakat.com/2005/02/16/%d9%85%d9%86-%d8%b9%d8%a8%d8%a7%d8%af%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b4%d9%8a%d8%b7%d8%a7%d9%86-%d8%a5%d9%84%d9%89-%d8%a7%d9%84%d8%aa%d8%af%d9%8a%d9%86-%d8%a7%d9%84%d8%b3%d9%84%d9%81%d9%8a-%d9%88%d8%aa%d9%83/ https://www.mohamadbarakat.com/2005/02/16/%d9%85%d9%86-%d8%b9%d8%a8%d8%a7%d8%af%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b4%d9%8a%d8%b7%d8%a7%d9%86-%d8%a5%d9%84%d9%89-%d8%a7%d9%84%d8%aa%d8%af%d9%8a%d9%86-%d8%a7%d9%84%d8%b3%d9%84%d9%81%d9%8a-%d9%88%d8%aa%d9%83/#respond Wed, 16 Feb 2005 15:53:55 +0000 http://www.mohamadbarakat.com/?p=274 أبو عدس الذي تبنى العملية هل أصابه مسّ

"أبو عدس"، الذي تبنى باسم تنظيم "النصرة والجهاد في بلاد الشام" عملية اغتيال الرئيس رفيق الحريري، معروف في شارع الجامعة العربية في الطريق الجديدة. لكن لا أحد يعرف شيئا عن "أبو عدس" في شارع الجامعة العربية في الطريق الجديدة. الجملتان صحيحتان، لأن معظم سكان المنطقة يعرفونه، لكن أحدا منهم لم يجرؤ على الإدلاء بما يعرفه عنه، ما عدا بعض الشبان الذين ادعوا أنّهم تحرّيون.
الطريق إلى منزل أبو عدس تمر من أمام مركز "حزب البعث"، حيث أحرق الغاضبون بعض الإطارات مساء أمس الأول، ثمّ إلى اليمين وصولا إلى مسجد راشد الحوري، ونزولا في الشارع المقابل لمدخل المسجد. تتعرف فورا إلى المبنى لأنّ شرطيان يرابطان على مدخله يمنعان أيا كان من دخوله إلا بعد رؤية بطاقة هويته للتأكد من أنّه يسكن المبنى. حتى زيارات الأقارب ممنوعة. المبنى شبه مختوم بالشمع الأحمر لمنع تسرب أي معلومة عن "أبو عدس" إلى وسائل الإعلام.
جيرانه الخارجون من المبنى يرفضون قول أي كلمة: "لا نعرف شيئاً"، "لم نرَ شيئا"، "لا نختلط به"، وغيرها من التعليقات الخائفة. ولم يتبق غير وسيلة واحدة، وهي البحث عن الشبان الذين يفترض أنهم يعرفونه.

من الكفر إلى الإيمان

أحمد أبو عدس، الفلسطيني الجنسية، إبن الأعوام الـ22، يسكن في المنطقة منذ سنوات طويلة. وهو بدأ نشاطه العلني في تلك المنطقة قبل أكثر من ثلاث سنوات، حيث راح يتبنى مظهر "عبدة الشيطان"، على ما صرّح به بعض الشبان والشابات الذين سألناهم. وتبين من كلام هؤلاء أنّ "أبو عدس" كان واحدا من الشبان المتفلتين من قيود المجتمع العائلي المحافظ، شكلا ومضمونا، ما جعلهم يصفونه بـ"عباد الشيطان".
وهو، بحسبهم، كان يكثر من السهر وشرب الخمور، ويضع أقراطاً على أذنيه وأساور في يديه وعقوداً غريبة على عنقه، ويلبس ثيابا عصرية فضفاضة ويرافق الشبان "الفاسدين"، على قول بعض سكان المنطقة، أي أولئك الذين لا يدخلون الجامع أبدا.
أحد الشبان، وهو ادّعى أنّه يعمل مخبرا لأحد الأجهزة الأمنية، وأنّه كان في عداد الذين داهموا منزل "أبو عدس" أمس الأول، قال: "كان يحبحب معي"، قاصداً القول أنّه كان يتناول حبوب الهلوسة معه، وأضاف: "كان سكرجياً قمرجياً وعباد شيطان، ثمّ، وفجأة، بدأ يرخي لحيته وابتعد عنا وبات من روّاد المسجد بانتظام". وإذ تمر دورية لقوى الأمن، يلقي هذا الشاب التحية على عناصرها بأسمائهم ومن دون تكلّف.
آخر، ادعى أنّه في جهاز آخر يعني بمكافحة الإرهاب، قال أنّه يعرف "أبو عدس" منذ سنوات، منذ كان "يسكر معنا كل يوم ونضلّ سوى"، وأضاف: "ثمّ صار متديناً ولم يعد يكلمنا، سوى أنّه يأتي إلى متجري كل يوم ليشتري حمصاً مطبوخاً بألف ليرة". وقبل أن يكمل، يقول للشاب الأول: "العميد تأخر أمس"، فيجيبه بالموافقة ويقول: "لكنّه جاء وسأل عنك"!!!

جنون مستجد

كان "أبو عدس" مقتصدا إذا، يأكل الحمص يومياً، لكنّه، في المقابل كان مبذراً في كلامه عن الدين. يروي أحد سكان الشارع الذي يسكنه أنّه، وبعد أن أرخى لحيته، بدأ يقصد المسجد يومياً، واهتم بدراسته إلى أن بات قادراً على تدريس علوم الكمبيوتر. فراح يدرس بعض الطلاب في منزله المطل على جسر الكولا.
لكنّه لم يوقف نشاطه المسجديّ. وتطور حضوره من مصلّ عادي إلى رجل يملك ملامح متميزة، تماما كما كانت ملامحه "الشيطانية"، على قول سكان حيّه: "فبعد أن كان يميز شكله بالحلي والثياب الحديثة، بات يلبس جلباباً أبيض صيفاً شتاء، ويضع على رأسه قماشة بيضاء تختلف عن تلك التي يضعها الشيوخ، كما أنّ طول لحيته أوصلها إلى خصره".
انتقل إذاً من النقيض إلى النقيض، أو أنّه وجد في الإسلام ملاذاً بعدما شنّت القوى الأمنية حملة على "عبدة الشياطين". إذ أنّ تاريخ انتقاله يتزامن مع تاريخ تلك الحملة التي قادها وزير الداخلية سابقاً إلياس المرّ.
ووصل تطور حضور "أبو عدس" إلى حد أنّه بات يؤم المصلين في حال تغيّب الشيخ، وكان يخطب أحياناً، ويركز في خطبه على الآية القرآنية التي تتحدث عن الأبراج، محاولاً ربطها بعملية 11 أيلول الإرهابية، على ما يقول أحد الشبّان.
وتقول رواية أخرى أنّ ذلك المؤمن المستجدّ، استجدّ عليه جنونٌ ديني في الفترة الأخيرة. إذ أنّه في شهر رمضان الماضي، كان يقف بشكل شبه يومي على رصيف المسجد، مقابل شارع عفيف الطيبي، متوعداً الكفرة وداعياً الناس إلى الإهتداء قبل أن يأتي يوم الحساب، حتى أنّه كان يشتم من لا يعيره أهمية، وكان يؤذن في الشارع أحياناً، في محاولة منه لحث العابرين على الصلاة.

"مخبول"

"مخبول"، قال الشاب الذي ادعى أنّه شارك في دهم منزله، وأضاف: "وجدنا في منزله أشرطة عليها تسجيلات تطالب بتكفير جميع الناس"، وتابع: "ووجدنا الطعام ساخناً، ما يدل على أنّ أهله هربوا من المنزل فور سماعهم الخبر"، شابة تسكن في مبنى مجاور قالت أنّها لم تره "منذ العيد الكبير"، أي منذ نحو ثلاثة أسابيع، وأضافت: "والده قال أنّه لم يره منذ أشهر وأنّه أبلغ الجهات المختصة التي تبحث عنه منذ ذلك الوقت".
لكن شابة ثانية تقول أنّ ناطور المبنى رآه أمس الأول خارجاً من منزله، أي قبل عملية الاغتيال. لكن المؤكد هو أنّ ذلك المؤمن أصابه مِسّ، أو هو ادعى إصابته بذلك المس، قبل أن يتوارى ويتحول إلى المطلوب رقم 1 في لبنان.
وقال شاب ثالث يسكن الحي نفسه، ادعى أيضاً أنّه عنصر في جهاز أمني يعنى بمكافحة التجسس، أنّ "أبو عدس" لا يتقن قيادة السيارات، فكيف له أن يفجر سيارته بموكب الرئيس الحريري. وأضاف أنّه بعد التحقيق مع بعض أقربائه، تبين أنّ شقيقه الذي يكبره ببعض سنوات قد يكون هو من فجّر نفسه في الموكب، ويبقى أحمد هو "المخطط"، فيما أكّد زميله أنّ شقيقه مقيم في ألمانيا منذ فترة طويلة.
تعددت الروايات، بين من يقول أنّ والديه مسافران ومن يقول أنّ أمه منقبة و والده مسافر إلى السعودية، وبين من ينسب إليه الجنون من ينسب الذكاء الكبير، لكن الرواية الحقيقية تبقى بعيدة المنال حالياً، لأنّ القوى الأمنية منعت المعنيين والجيران من التحدث وفرضت ما يشبه الحظر الأمني على المعلومات، من دون أي سبب مقنع.
أحد الشبّان ردّ على سؤالنا عن "أبو عدس" بالقول: "بلا عدس بلا فاصوليا، كلنا منعرف مين عمل الطبخة…".

بيروت لبسته ثوباً

بدا أمس أنّ بيروت لبست الرئيس الشهيد ثوباً لها بعد موته. فالطرقات التي فرغت من العابرين ومن السيارات، امتلأت بصوره التي أضيف إليها كلمتان: الشهيد الراحل.
وبدا أنّ البيروتيين لا يريدون أن يخرجوا رئيسهم وزعيمهم من ذاكرتهم اليومية إلى تاريخهم الذي سيصير الرئيس جزءا مهماً منه، بل هم يريدونه أن يبقى معه. فبدلاً من صوره القليلة التي كانت تتوزع جوانب الطرقات بنسبة أقل بكثير من نسب بقية الزعماء، نثر البيروتيون صوره في كل مكان مرفقة بعبارات تؤكد على أنّهم لن ينسوه وعلى أنّه سيبقى في قلوبهم دوماً.
بقي البيروتيون في بيوتهم أمس، كأنّهم يدخرون أرجلهم وخروجهم من منازلهم لليوم، حين سيشيعون شهيدهم.

كان يعيش حياة صاخبة انقلبت رأسا على عقب
أبو عدس غادر منذ كانون الثاني منزل ذويه متجها نحو العراق

لم يلمع اسم الفلسطيني أحمد تيسير أبو عدس في الأوساط الفلسطينية وداخل المخيمات إلاّ بعد الإعلان عنه عبر شريط تلفزيوني يفيد أنّ جماعة "النصرة والجهاد في بلاد الشام" هي المسؤولة عن اغتيال الرئيس رفيق الحريري.
وبعد وقت قصير من بث الشريط، انشغل المسؤولون الفلسطينيون في البحث عن تفاصيل سيرة أبو عدس والتنظيم الذي ورغم أنّه ينتمي إليه، بيد أنّ المعلومات التي توفرت كانت شحيحة جداً.
وتقاطعت المعلومات الفلسطينية مع الأمنية "أنّ أبو عدس يقيم مع والديه في الطريق الجديدة في بيروت ولم يكن يتردد إلى أي من المخيمات الفلسطينية في الجنوب".
ويروي مقربون من العائلة "أنّ أبو عدس إلتزم دينياً منذ فترة قصيرة، ولم يكن متشدداً من قبل، إذ أن حياته التي كانت حافلة في ما قبل بالصخب سرعان ما انقلبت رأسا على عقب". وثمة معلومات أنه غادر منزله منذ 15 كانون الثاني الماضي بدون أن يبلغ والديه اللذين تقدما بشكوى في هذا الصدد لدى القوى الأمنية.
ويؤكد المقربون: "أن ثمة كلاماً عن مغادرة أبو عدس إلى العراق للجهاد ضد الاحتلال الأميركي". علما أنّه من مواليد السعودية ومتأثر بالفكر الوهابي ووضع أسرته المادي مقبول.
من جهة أخرى، أعلنت "لجنة المتابعة الفلسطينية" واللجان الشعبية في مخيمات صيدا الحزن والحداد في عين الحلوة ورفعت صوراً للرئيس رفيق الحريري بمحاذاة صور الرئيس الراحل ياسر عرفات وجالت سيارات عدة في المخيم تدعو للمشاركة في موكب التشييع الذي سيقام اليوم في بيروت.
وأقفلت مؤسسات "الأونروا" الاجتماعية والخدماتية والصحية والمدارس أبوابها داخل المخيم استجابة للدعوة إلى الحداد الرسمي.
واستنكر أمين سر اللجان الشعبية الفلسطينية في مخيمات منطقة صيدا عبد مقدح جريمة الاغتيال واعتبر "أنها حادثة سوداء في تاريخ لبنان وتهدف إلى ضرب أمنه واستقراره".

"نعيش سويا ونموت سويا"

في منزل الوزير البعثي السابق عبد الله الأمين، تقبل آل العرب تعازي الرجال بفقيدهم، المرافق الشخصي للرئيس الحريري، يحيى العرب. فيما تقبلوا تعازي النسوة في الطبقة الخامسة من المبنى نفسه، في منزل الشهيد يحيى.
واعتبر أقارب الفقيد أن "ما حصل كان متوقعا في أي لحظة، حتى أن الرئيس الحريري قال ليحيى: نعيش سويا ونموت سويا، لهذا السبب أصر أولاد الرئيس الراحل على أن يدفن يحيى معه".
المنزلان غصَّا بالمعزّين، فيما احتشدت خارج المبنى عشرات السيارات المغلقة بصور الرئيس الراحل.

]]>
https://www.mohamadbarakat.com/2005/02/16/%d9%85%d9%86-%d8%b9%d8%a8%d8%a7%d8%af%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b4%d9%8a%d8%b7%d8%a7%d9%86-%d8%a5%d9%84%d9%89-%d8%a7%d9%84%d8%aa%d8%af%d9%8a%d9%86-%d8%a7%d9%84%d8%b3%d9%84%d9%81%d9%8a-%d9%88%d8%aa%d9%83/feed/ 0
تكتم سوري ولبناني عن هوية المفرج عنهما https://www.mohamadbarakat.com/2005/02/14/%d8%aa%d9%83%d8%aa%d9%85-%d8%b3%d9%88%d8%b1%d9%8a-%d9%88%d9%84%d8%a8%d9%86%d8%a7%d9%86%d9%8a-%d8%b9%d9%86-%d9%87%d9%88%d9%8a%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d9%85%d9%81%d8%b1%d8%ac-%d8%b9%d9%86%d9%87%d9%85%d8%a7/ https://www.mohamadbarakat.com/2005/02/14/%d8%aa%d9%83%d8%aa%d9%85-%d8%b3%d9%88%d8%b1%d9%8a-%d9%88%d9%84%d8%a8%d9%86%d8%a7%d9%86%d9%8a-%d8%b9%d9%86-%d9%87%d9%88%d9%8a%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d9%85%d9%81%d8%b1%d8%ac-%d8%b9%d9%86%d9%87%d9%85%d8%a7/#respond Mon, 14 Feb 2005 15:43:58 +0000 http://www.mohamadbarakat.com/?p=268 قد يكون المعتقل اللبناني في السجون السورية سمير مخايل، الذي أفرج عنه أمس الأول مع 54 من المعتقلين السياسيين في سجن صيدنايا العسكري، هو سمير مخايل الحاج (48 عاما) الذي يتحدر من بلدة رميش الجنوبية، والذي فقد من ورشته في سد البوشرية قبل 10 سنوات في ظروف غامضة من دون أن تعترف به أي جهة رسمية لا في لبنان ولا في سورية. ويمكن، بالتالي، اعتباره "مخطوفا" وليس معتقلا سياسيا وفق ما توارد من أخبار.
وتردّد، حتى مساء أمس أن أيا من المفرج عنهما لم يطأ الأراضي اللبنانية، في وقت لم تعلم أي جهة رسمية لبنانية أي معلومة ضمن هذا الإطار، وبدت غير معنية باثنين من أبنائها معتقلين في دولة أخرى إلى جانب عشرات غيرهم، بحسب لوائح "دعم المعتقلين والمنفيين اللبنانيين" المعروفة باسم "سوليد".
وقال رئيس "سوليد" غازي عاد أنّ سمير مخايل "ليس على لوائحنا ولا نعرف عنه شيئا". وأضاف: "هذا الغموض وغياب الجدية والشفافية في التعاطي مع هذا الموضوع من شأنهما خلق بلبلة عند الأهالي والمهتمين، حتى أن الاسم قد لا يكون حقيقيا أو قد يكون ناقصا أو أنّه وصل بشكل غير صحيح، لأنه صدر عن أحد المفرج عنهم حين سألوه عن اللبنانيين اللذين خرجا معه".
وقد صحّ ما قاله عاد، الذي علم لاحقا أنّ الاسم هو سمير مخايل الحاج، وقال أنه ليس على لوائح "الجمعية" لأنّ أهله لم يتصلوا بها ولم يطلبوا عونها، في حين تردد أنّ تهمة سمير قد تكون شخصية وليست سياسيةة.
وعلم من مصادر أمنية أن اسم المفرج عنه الآخر قد يكون فارس حنا، وهو ليس معتقلا سياسياً، ولم يمض على سجنه أكثر من عشرين يوما.
ومساء، أصدرت "سوليد" بيانا انتقدت فيه "البلبلة الحاصلة"، لأنّ "إطلاق السراح صادر عن جهة غير رسمية هي جمعية حقوق الإنسان في سورية التي يرأسها هيثم المالح، كما أنّه لم يرفق بأسماء المفرج عنهم". وأضاف البيان: "حتى الساعة، لم تبادر المراجع اللبنانية والسورية إلى توضيح حقيقية ما جرى مما يزيد من أجواء القلق المسيطر على مئات العائلات اللبنانية".
وشدد البيان على أنّ "القوانين الدولية وخصوصاً الإعلان العالمي لحماية كل الأشخاص من الإخفاء القسري، لا تعفي السلطات التي تقبل أو تغطي أو تمارس جريمة الإخفاء القسري، من مسؤوليتها أمام القانون". واعتبر أنّ "الدولة اللبنانية تتحمل المسؤولية القانونية في قضية إخفاء العديد من أبنائها وحرمانهم حقهم في الحياة والحرية عبر استمرارها بالتعاطي غير المسؤول مع هذه الجريمة المتمادية في حق الإنسانية".

]]>
https://www.mohamadbarakat.com/2005/02/14/%d8%aa%d9%83%d8%aa%d9%85-%d8%b3%d9%88%d8%b1%d9%8a-%d9%88%d9%84%d8%a8%d9%86%d8%a7%d9%86%d9%8a-%d8%b9%d9%86-%d9%87%d9%88%d9%8a%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d9%85%d9%81%d8%b1%d8%ac-%d8%b9%d9%86%d9%87%d9%85%d8%a7/feed/ 0
آثار الجميزة الهلنستية في خطر https://www.mohamadbarakat.com/2005/01/14/%d8%a2%d8%ab%d8%a7%d8%b1-%d8%a7%d9%84%d8%ac%d9%85%d9%8a%d8%b2%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d9%87%d9%84%d9%86%d8%b3%d8%aa%d9%8a%d8%a9-%d9%81%d9%8a-%d8%ae%d8%b7%d8%b1/ https://www.mohamadbarakat.com/2005/01/14/%d8%a2%d8%ab%d8%a7%d8%b1-%d8%a7%d9%84%d8%ac%d9%85%d9%8a%d8%b2%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d9%87%d9%84%d9%86%d8%b3%d8%aa%d9%8a%d8%a9-%d9%81%d9%8a-%d8%ae%d8%b7%d8%b1/#respond Fri, 14 Jan 2005 15:47:21 +0000 http://www.mohamadbarakat.com/?p=271 بين منطقتي الصيفي والجميزة، وقريبا من سينما أمبير قديما، يرقد سور المدينة الهلنستية التي بناها الإسكندر المقدوني في العام 333 قبل الميلاد قبل أن يحرقها الرومان في العام 65 قبل الميلاد ليفنيها عن بكرة أبيها الزلزال الذي ضرب الساحل اللبناني في القرن السادس بعد الميلاد، على ما يقول المسؤول المباشر عن الموقع الأثري جميل رحيّم.
إلى هنا تبدو القصة عادية، لنكمل. اليوم، سيزال هذا السور ليشاد مكانه بناء حديث يدرّ بعض الأرباح على المقاول والمهندس وغيرهما. وربما يفتتح في المبنى نفسه ملهى ليلي صغير، يرقص فيه شبان وشابات، لبنانيون وعرب، على أنقاض التاريخ الهلنستي، أو لنقل على أنقاض سور المدينة الهلنستية الذي يتعدى عمره ألفي سنة. لنسمّها رقصة الموت، موت الآثار وموت الإحساس بقيمة الأثر الذي يبقى لنا من الأولين الذين سكنوا هذه الأرض من قبلنا.
مصدر في مديرية الآثار اعتبر أنّ كل حالة تبحث على حدة، مؤكداً أنّه من المنطقي أن يكون مصير هذا الموقع مشابها لمصير الآثار المطمورة تحت المقهى والمطعم المجاورين. ورأى المصدر نفسه أنّه بناء على المعطيات التي ترسلها اللجنة المكلفة الإشراف على الموقع، يتحدد مصيره، فإما يطمر ويبقى على جزء رمزي منه وإما يبقى عليه ويمنع البناء فوقه.
الموقع يديره هانس كرافر، ويشرف عليه كل من جامعة أمستردام ومؤسسة سوليدير. لكن أسوة بالآثار التي وجدت تحت المقهى المجاور للموقع، ستوافق وزارة الآثار على إستكمال البناء، بعد أن يرفع عدد رمزي من الأحجار التي وجدت وتوضع في مكان رمزي أيضا. المطعم المجاور مثلا وضع بعض الأحجار في حديقة مقهاه الأرستقراطي، حيث علتها الأعشاب، وحيث لا يعرف أحد إن كانت جزءا من سور أثري أو أنّه استقدم من بورة مهجورة قريبة. والأحجار التي رفعها هذا المقهى هي امتداد لسور المدينة الهلنستية الذي يلتف حول مدينة تبرز أثارها في الموقع المذكور، لكنها معرضة، كما الموقع كله، للتشويه والطمر إلى الأبد.
اليوم، يستكمل الحفر في أماكن متفرقة من وسط بيروت، في الظل، حيث لا يحاسب أحد أحدا. والمجزرة نفسها تتكرر اليوم، تظهر آثار، تطمر، يبنى على أنقاضهما، ولا أحد يحاسب أحدا.

]]>
https://www.mohamadbarakat.com/2005/01/14/%d8%a2%d8%ab%d8%a7%d8%b1-%d8%a7%d9%84%d8%ac%d9%85%d9%8a%d8%b2%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d9%87%d9%84%d9%86%d8%b3%d8%aa%d9%8a%d8%a9-%d9%81%d9%8a-%d8%ae%d8%b7%d8%b1/feed/ 0
دكان أبو علي الامبريالي يموّل الطرفين و مجلس الأمن يتمهل https://www.mohamadbarakat.com/2004/11/14/%d8%af%d9%83%d8%a7%d9%86-%d8%a3%d8%a8%d9%88-%d8%b9%d9%84%d9%8a-%d8%a7%d9%84%d8%a7%d9%85%d8%a8%d8%b1%d9%8a%d8%a7%d9%84%d9%8a-%d9%8a%d9%85%d9%88%d9%91%d9%84-%d8%a7%d9%84%d8%b7%d8%b1%d9%81%d9%8a%d9%86/ https://www.mohamadbarakat.com/2004/11/14/%d8%af%d9%83%d8%a7%d9%86-%d8%a3%d8%a8%d9%88-%d8%b9%d9%84%d9%8a-%d8%a7%d9%84%d8%a7%d9%85%d8%a8%d8%b1%d9%8a%d8%a7%d9%84%d9%8a-%d9%8a%d9%85%d9%88%d9%91%d9%84-%d8%a7%d9%84%d8%b7%d8%b1%d9%81%d9%8a%d9%86/#respond Sun, 14 Nov 2004 14:39:51 +0000 http://www.mohamadbarakat.com/?p=255 أصوات المفرقعات التي كانت تطلع خجوله من شوارع بيروت وضاحيتها الجنوبية سترتفع أكثر منذ اليوم. وستزيد حدة المعارك بين فصائل التنظيمات الطفولية. وقد يحدث أن يحتل حمودي معقل حسونة وراء السيارة الرمادية. وقد يحدث أيضاً أن يكون أحمتّو مراقباً دولياً من شباك نافذته، لأن أمه لم تسمح له بالنزول إلى الشارع خوفا عليه من صاروخ طائش أو راجمة تخطئ هدفها. وقد يحدث أن يشتري علّوشي فرقيعا بعيديته كلها، غير آبه بغضب أمه التي تريده أن يشتري بأموال العيد طعاماً إضافياً. هي لا تعرف أنّه مكتف بالطعام الذي تخرجه من مطبخها، لذلك، تريده أن يشتري شيئاً يأكله بدلا من الفرقيع. لكنه لا يريد، لا لأنه غير مؤدب ولا يسمع كلمة أمه، بل لأنّه يحمل مسؤولية تنظيمية مع بقية أفراد العصابة: عصابة حي النقيفة.
وتعود تسمية الحي إلى الجيل السابق، الذي ما عاد أبطاله ينادون بعضهم بأسماء الدلع، حيث حمودي يصبح محمد، واحمتّو يصير أستاذ أحمد وعلوشي يتحول إلى علي، تلك قصة أخرى.

أصل التسمية

تعود التسمية إذا إلى جيل النقيفة، حين كان العيد يقتصر على اللعب بما تصنعه أيدي الأطفال للأطفال. كانوا يصنعون عيدهم، من أخشاب قليلة يصنعون نقيفات ورشاشات وهمية، لا تصدر أصواتاً مثل تلك الحديثة، التي يشتريها الأطفال من المتاجر في أيامنا هذه. اليوم، بات لدى الأطفال من يصنع أعيادهم من بلاستيك و بارود حيّ.
فبدلا من صناعة نقيفة، يشتري أعضاء عصابة حي النقيفة مفرقعات جاهزة للإنفجار من دكان أبو علي، الذي يفرد للسلعة الطارئة والمربحة، أي المفرقعات، مساحة كبيرة في متجره. حتى ليشعر الأطفال أنهم في متجر خاص بآلات الحرب والتفجير الصبياني. ويكون المخطط مهاجمة عصابة الفريخات. وتعود تسمية ذلك الحي إلى المنقفين، الذين يعتبرون خصومهم جبناء. أما هم، الفريخات، فيسمون أنفسهم وطاويط، لأنّهمْ يسهرون أكثر من أعضاء العصابة الأخرى.
بعد أن يحل العيد فجأة، وإذ ينتظر الجميع رؤية القمر لتحديد يوم العيد بدقّة، تكون التجهيزات للمعركة على نار حامية. وإذ تشتري الأمهات ثياباً جديدة لأطفالهن، من الأسواق القريبة، كل بحسب مقدرتها، يكون الأطفال يحلمون بالانتصار في معركة العيد. وصباحا، حين يهرع الرجال إلى المآذن لتأدية صلاة العيد، ينزل أعضاء العصابتين إلى الشارع، منذ الصباح الباكر، ويبدأون بالقصف الجوي والبري، لكن من دون أساطيل بحرية.
والإشتباك لا يحصل في حي النقيفة ولا في حي الوطاويط الفريخات، إنما في حي الليفة، الذي تعود تسميته إلى متجر صغير لبيع الليف. والسبب هو تحييد المدنيين، لأن جميع سكان حي الليفة يعودون إلى قريتهم في العيد، فيخلو حيهم من المدنيين.

شكاوى

في العيد الماضي، قدم الوطاويط شكوى إلى مجلس الأمن، بسبب سقوط صاروخ على سجادة أم حسين، وقد تمهل المجلس قبل التدخل. والمجلس هو لجنة البناية، المؤلفة من أبو جهاد وأبو علي وأبو محمد وأبو أحمد. لكن بعد ستة أشهر من النظر في القضية، تبين أنّ الصاروخ كان طائشا، وهو أتى من جهة الغرب، أي من حي النباريش المسالم، الذي لا يشتبك أطفاله مع أحد، بل يطلقون صواريخهم إلى السماء، ويأكلون الحلوى ويعيدون بعضهم بدلا من التقاتل. كما يحكى، وهذا سر لم يؤكده أحد، أنّ أطفال النباريش ينامون قبل الساعة السابعه مساء. وذلك محط تهكم لأطفال العصابات المجاورة. بأي جال، يتمهل مجلس الأمن كثيرا قبل التدخل، لأنّه غالباً ما ظلم أطفالا وفرض عليهم حظراً على شراء مفرقعات الدمار الشامل و حظراً على السكاكر، والعلكة تحديداً، تلك التي تنفخ "بوالين".

وتبرعات

إذا، بعد أن يوقظ المتقاتلون جميع السكان، على مسافة أميال كثيرة، يعودون إلى بيوتهم لبدء جولة العيد، التي يلمون منها "عيدية"من كل قريب. نستطيع أن نسميها "تبرعات من أجل المجهود الحربي"، على طريقة أم كلثوم. وحين تنتهي الجولة، يعود المقاتلون إلى ساحة المعركة،التي تبدأ فور عودة أولهم. وتستمر المعركة ثلاثة أيام. وهي لا تنتهي بغالب ومغلوب. لا غالب ولا مغلوب، جملة يعرفها الجميع. لكن سبب انتهاء المعارك هو فتح أبواب المدارس، التي تسحبهم من الشوارع إلى مقاعدها الخشبية.
قد يصاب أحد الاطفال بحروق بسيطة أو بجرح طفيف في تلك المعركة، لكن سنة كاملة مسافة زمنية طويلة، كافية لينسى الأهالي تلك الذكرى المؤلمة.
هذا هو العيد في إحدى المدن الخيالية. كما يذكر أن كل ما كتب سابقا ينتمي إلى أسرة "التحقيق الخيالي". وأي تطابق بين الشخصيات السابق ذكرها وبين جميع القراء محض تشابه مقصود بعناية.

]]>
https://www.mohamadbarakat.com/2004/11/14/%d8%af%d9%83%d8%a7%d9%86-%d8%a3%d8%a8%d9%88-%d8%b9%d9%84%d9%8a-%d8%a7%d9%84%d8%a7%d9%85%d8%a8%d8%b1%d9%8a%d8%a7%d9%84%d9%8a-%d9%8a%d9%85%d9%88%d9%91%d9%84-%d8%a7%d9%84%d8%b7%d8%b1%d9%81%d9%8a%d9%86/feed/ 0
يوميات فتى في سجن رومية للمهانة والعنف والذكوري (2) https://www.mohamadbarakat.com/2004/10/22/%d9%8a%d9%88%d9%85%d9%8a%d8%a7%d8%aa-%d9%81%d8%aa%d9%89-%d9%81%d9%8a-%d8%b3%d8%ac%d9%86-%d8%b1%d9%88%d9%85%d9%8a%d8%a9-%d9%84%d9%84%d9%85%d9%87%d8%a7%d9%86%d8%a9-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%b9%d9%86%d9%81-2/ https://www.mohamadbarakat.com/2004/10/22/%d9%8a%d9%88%d9%85%d9%8a%d8%a7%d8%aa-%d9%81%d8%aa%d9%89-%d9%81%d9%8a-%d8%b3%d8%ac%d9%86-%d8%b1%d9%88%d9%85%d9%8a%d8%a9-%d9%84%d9%84%d9%85%d9%87%d8%a7%d9%86%d8%a9-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%b9%d9%86%d9%81-2/#respond Fri, 22 Oct 2004 08:32:17 +0000 http://www.mohamadbarakat.com/?p=219  هذه الحلقة هي الثانية من شهادة سجين في سجن رومية للأحداث، وهي تتحدث عن المبادلات التجارية والعلاقات السوقية التي تحكم عالم السجن.

لم يكن السماح بفتح أبواب الزنازين يتعدى التنزه والخروج من طبقة الأحداث الأخيرة في أحد مباني سجن رومية، المؤلف من ثلاث طبقات، إلا لمن يحظى بـ"مواجهة"، أي أن يزوره أحد ما من خارج السجن. وكان يسمح لنا بزيارة المكتبة لمرة واحدة في الأسبوع، كذلك صالة الكمبيوتر. لكن هذا النوع من الترفيه الحذر لا يخرج هذا المجتمع الصغير من بدائيته. فمع تزايد ثروتي المنقولة، التي كانت تغدقها عليّ أمي لئلا أشعر بفارق كبير بين السجن وخارجه، راحت أسهمي تتزايد. في اليوم الأوّل لم يأمر "الشاويش" بأن أنام في الخارج. كان ذلك جزءاً منسياً من شهامة عربية قديمة في نفس "الشاويش". فأكرمت تكريم ضيف عزيز بالنوم على سرير في ليلتي الأولى معه. وبعد أن أتتني أمي بالثروة في اليوم الثاني، عرفت الطريقة إلى قلب هذا المارد "الحدث" من خلال بطنه. لكنني كنت حذراً لئلا أجعله يطمع بي. بل حاولت أن أتعامل معه بندية، ونجحت. وكان ما أعطيه إياه لا يزيد عمّا أعطيه لغيره ممن باتوا الأقرب إلي، إن لم يصبحوا أصدقائي. وبذلك استوطنت على السرير المحاذي لسرير "الشاويش" طوال مدة وجودي في السجن، وجعلت من السرير طاولة لأغراضي نهاراً وفراشاً لنومي ليلاً. وكنت ألعب دور رأسمالي في عالم بدأت أعي أنّه لا يتسع إلاّ للأقوياء، ولا مكان فيها سوى لإثنين: إما القوي أو الضعيف. وقررت أن أكون قوياً، بأي طريقة. كنت كمن يعيش في قصة غريبة، فأحاول أن ألعب فيها دور القوي، خائفاً من أن تكون قوتي شريرة. وذاع صيتي إلى زنازين مجاورة، فكان بعض "الشاويشية" يأتون إليّ ليقولوا: "إذا تعرضت لأيّ إزعاج فعليك ان تخبرني فقط وسترى"، قبل أن يضيف: "هل تستطيع أن تعيرني قنينة مياه"، أو "أعطني خياراً وبندورة"، أو "هل لديك موز".

 

موزاييك بشري

أحد زملاء الزنزانة وكان عمره 16 عاماً، روى لنا أنّه دخل إلى السجن بدعوى إغواء قاصر. وشرط الإفراج عنه هو أن يتزوجها. كان حاول الإنتحار بقطع شرايين يده التي كانت تحمل آثار هذه المحاولة جرحاً غائراً حتى حدود عظامه. لكن محاولته باءت بالفشل. نقل من المستشفى إلى السجن. ولم تمضِ أيام حتى أعلن موافقته على الزواج بها، هو الآتي من عكار مثل كثيرين من نزلاء هذه الزنزانة، فيما القسم الأكبر منهم كان سوري الجنسية. أما العراقي الوحيد فدخل البلاد "بصورة غير شرعية"، هرباً من العراق حيث قتل زوجة أبيه على ما قال لنا. وهناك سجين ثالث دخل السجن بعد سرقة "قنينة غاز" فارغة، ثمنها لا يتعدى عشرة دولارات، كان ينوي صرفها لتمضية يوم بحري على شاطئ مدينة صور.

هذا الموزاييك البشري لم يكن يسمح لأي نوع من أنواع التفاهم بين "الأحداث" سوى لغة القوة. فكان القوي يفرض لنفسه سلطة معينة، وعلى الأقل حدوداً لا يسمح لأحد أن يتخطاها. وكنت أنا ممن رسموا خطاً من هذه الخطوط عبر الثروة العينية التي أهدتني إياها أمي، وليس عبر قوة جسدي النحيل. إذ كان الماء العذب النقي يغري "الشاويش" بالمغامرة عبر إخراج اختراعه المحبب واستعماله. هذا الاختراع هو عبارة عن سخان كهربائي، صنعه بواسطة خشبة تفصل بين برغيين كبيرين انتزعهما من أحد الأسرّة. وبوضع شريط كهربائي على البرغي الأوّل، وثانٍ على البرغي الثاني كان يحصل على سخان كهربائي نصنع شاياً نظيفاً بواسطته. كانت هذه العملية تمثل ذروة المغامرة والتحدي، إذ يمنع إدخال أيّ من أنواع الأدوات الكهربائية إلى الزنازين ما عدا التلفزيون المعلّق في أعلى كلّ غرفة، حيث يصعب أن يطاله السجناء. وكان كوب الشاي يباع بخمس سجائر. والسيجارة هي العملة الصعبة في السجن. فبوسعك أن تشتري كنزة بعلبة سجائر. أما ثمن "البوط" فيزيد عن العلبتين. فيما يتراوح ثمن البنطال بين نصف علبة وعلبة. والأسعار تخضع لقاعدة العرض والطلب. وكنت أنا ممن يشترون الأصدقاء بمياهه وطعامه.

كانت إدارة السجن توزع علينا شفرات حلاقة لذقوننا، وكنا نحلق من دون مرآة. وكانت المرآة هي الاختراع الثاني الذي علمني السجن أنّه ليس عظيماً. فقد كنا نضع قماشة سوداء وراء زجاج النافذة، فيعكس الزجاج الصورة بعض الشيء. وطوال المدة التي قضيتها هناك وهي تناهز الشهر، لم يحصل واحدنا سوى على شفرة واحدة. وقد قال لي بعض ممن سبقوني أنّها تعد من النوع الرديء جداً. واكتشفت بعد خروجي من السجن أنّ ثمنها لا يتعدى 250 ليرة.

تسمح إدارة السجن للمحكومين بمدد طويلة بأن يعملوا في مصانع حرفية داخل السجن لقاء أجور معقولة، لكنها تبقى أقل من تلك المعمول بها خارج السجن. وغالباً ما يستعمل بعض "الأحداث – الأجراء" أجرة أعمالهم لشراء التبغ. فيما يستعملها بعضهم الآخر لإعالة عائلتهم الفقيرة، التي لا يوجد من يعيلها خارج السجن.

الأجسام المستباحة

أوّل ما يفقده سجين رومية هو العزلة، هذا الشيء الذي نستطيع من خلاله أن نعيد تجميع بعض الأفكار أو أن نعيد رمي بعض الأشياء إلى خارج أنفسنا وذاكرتنا. ويبدأ السجن بالضرب على حواف هذه الذوات لتجويفها. فذات السجين غير موجودة، ولا خصوصية لأي شيء يقوم به. الحمام مثلا، الذي كنا نشترك فيه، نحن الـ28، كان بلا باب. كما كان الجدول الذي تفرضه علينا إدارة السجن مكتملاً باستمرار، من زيارة المكتبة أو صالة الكمبيوتر، مروراً بالمواجهات (زيارات الأهل)، وصولاً إلى تنظيف الزنازين والمشاركة في الغسيل والطبخ، إضافة إلى غيرها من الأعمال التي لا قدرة لإدارة السجن على تحمل تكاليفها، فتسندها إلى المسجونين. هذا ما جعل الاستحمام اليومي، الذي تفرضه علينا قوانين السجن، مشتركاً. الأمر الذي جعل كلاً منّا عرضة لأنظار 27 شخصاً أثناء استحمامه. الخصوصية تبدو ترفاً في السجن، فلا يحصل عليها إلاّ "الشاويش" الذي يتصرف كأنّه سلطان الغرفة وحاكمها المطلق. فيستحم وحده بحراسة أحد "زلمه".

والسلطان لا بدّ له من أن يحظى ببعض الجواري. وأذكر، إذا لم تخن ذاكرتي، أنّ "شاويش" غرفتنا كان ينعم ببعض منه. فكما هي الحال في معظم الغرف، كانت غرفتنا تضم بعض الأطفال ممن هم دون الرابعة عشرة وحتى ممن هم دون العاشرة، وكان هؤلاء الأطفال بحاجة للحماية. وفي السجن لا شيء مجاني. ولكي يحمي أحد ما ظهرك، لا بد من أن تدفع له. وعملة السجن هي السجائر إذا وجدت، والطعام والشراب إذا وجدا أيضاً، والآتيان من مطابخ النسوة اللواتي تزرن السجن في أوقات المواجهات. ومن لا يملك هذا أو ذاك، فعليه أن يكون قوياً وقادراً على الدفاع عن نفسه، أو عرضة لأي طارئ، أو أنّه يجب أن يكون من "حريم السلطان" كما كان حال أحد الأطفال في غرفة الدخول في شهر آب من عام 2001.

 

سلطان النوم

كان موعد النوم هو الساعة الثامنة مساء. ففي هذا الموعد تطفأ الأضواء، فتغرق الزنازين في ظلام تام. هذا ما يعطّل قدرة الكاميرات المثبتة في كل زنزانة على التصوير. عندها يبدأ الشبان والمراهقون السبعة ألعابهم, فغرفة الدخول لم تكن تتسع سوى لثمانية أسرة تقسم على طبقتين أرضية وعليا، فينام ثمانية سجناء داخل الغرفة، فيما يخرج عشرون من غرفتنا إلى الممر العريض، حيث ينامون متجاورين مع عشرات من سجناء الزنازين المجاورة، في برد العراء الجبلي في رومية. حينها كان "الشاويش" يروح يتحرش بأحد الأطفال الذين يسمح لهم بالنوم على السرير مداورة. يساعده في هذه العملية إثنان من "زلمه". لم يكن الطفل يعارض هذه التحرشات، بل كان يتظاهر بذلك لحين من الوقت، وكنت أنام كل يوم مستمعاً إلى أصواتهم يتضاحكون ويتحدثون حتى ساعة متأخرة من الليل.

وفي الصباح، كانت الأوامر هي أن نستيقظ في تمام السادسة، ومن لا يستيقظ يضرب بالعصا إلى أن يمتثل للأوامر، وحينها تبدأ حفلة التنظيف اليومية التي لا تنتهي قبل موعد الغداء. وبعد الغداء، يرتاح السجناء لبعض الوقت، ثم يجبرون على الاستحمام، ثم يسمح لهم بلعب الورق أو غيرها من الألعاب. لكن النوم كان ممنوعاً إلا لـ"الشاويش". والأخير كان يعين حارساً قبل أن ينام عصراً، ليمنع البقية من النوم. كان النوم حكراً على عيونه، التي تسهر مع المحظيين طوال الليل، وتنام هانئة بعد الظهر، مطمئنة إلى أنّ الجميع يحسدونها لقدرتها على الإغماض من دون بقية العيون الناعسة.

 

سماء الطفولة البعيدة

كان السجن عقابا مزدوجاً. فهو منعني من الخروج من بين جدرانه الأربعة كما يفترض به أن يفعل، وقيد حرية تنقلي. لكنه أضاف إلى هذا العقاب عقاباً أشد قسوة، إذ كان من المبكر أن أعيش تجربة الغابة في ذلك العمر الصغير، لكنه علمني أموراً كان من الصعب أن أتعلمها، لو لم أدخله. علمني أن لا أحد يستطيع أن يكون قوياً وعادلاً في الوقت نفسه. فالقوة في السجن هي رديف الظلم والتعدي على الآخرين. وإذا كنت قويا ومسالماً، فهذا يعني أنك إما جبان، أو ضعيف. أما التواصل مع الأقوياء فلا يكون إلا بطرق ثلاث. الأولى هي أن يكون الشخص قوياً ونداً للقوي، والثانية هي أن يكون "كلب الأمير أمير"، والطريقة الثالثة هي أن تشتري قوة القوي، وذلك لا يكون إلا مؤقتاً، إلى أن يزول مفعول ما تدفعه من مواد عينية.

في السجن، كبرت فجأة. زاد وزني. قلّ اعتمادي على الآخرين. أصبحت أقرب إلى الرجولة مني إلى طفولة لا زالت تراوغ مراهقتي. كنت أستيقظ كل صباح لأرى السماء من شباك قريب إلى سرير"ي". كانت السماء تشبه طفولتي. لم أنظر يوماً إلى السماء كما نظرت إليها في سجني. كانت زرقاء وجميلة وممتدة وبعيدة وحلوة ورقيقة.

كانت كل الأشياء التي افتقدتها في تلك الزحمة الرجولية ذات الرائحة العفنة، في ذلك الركام الذكوري الذي كان يصيبني بالغثيان ويشعرني بالغربة عن الأماكن الأليفة التي كان يجب أن أكون فيها لو لم أصعد إلى السيارة في تلك الليلة.

وفي السجن قرأت. قرأت مؤلفات ميخائيل نعيمة ومؤلفات إملي نصرالله كلها. كأنني كنت أسترجع كتب القراءة التي لازمت طفولتي أثناء غوصي في حكايات هذين الكاتبين. كما قرأت "هاملت" لشكسبير و"أنا وهو" و"الحقارة" لألبتو مورافيا. كنت أسترجع بعضاً من أحلامي الجنسية المكبوتة في السجن، أثناء قراءتي هذين الكتابين الطويلين. كنت أقرأ بمعدل خمس ساعات يومياً. وكان ذلك الوقت غالي الثمن، إذ كنت أدفع للشاويش ثمن "عطالتي" وعدم مشاركتي في حفلات التنظيف اليومية. كما كنت أدفع لبعض الـ"أصدقاء" ثمن العمل نيابة عني إذا ما أغضبت الشاويش بكلمة أو حركة أو إجابة لا تليق بمقامه. قرأت كذلك أجزاء من القرآن، لا تقرباً من الله كما اعتقد بعض الزملاء من المسجونين، بل طلباً للعلم ولزيادة استثماري ذلك الوقت الذي أقضيه في السجن. باختصار، قررت أن أخرج من السجن أكثر ثقافة وخبرة، وألا أقتل أوقاتي بأن أمررها كيفما اتفق.

 

الخروج

يوم عرفت أنّ أهلي دفعوا "ديّة" الرجل الذي توفى إثر الحادثة، بدأت أتصرف كأنني سائح في مكان سأتركه بعد قليل، قبل أن أكتفي من زيارتي له. أصبح السجن نزهة لا أريد مغادرتها قبل أن أرى الأشياء كما لم أرها عندما كنت متهماً خائفاً من عقاب قد يصل حدود القتل شنقاً أو المكوث سنوات طويلة بين جدران أربعة ومع رجال يدعون أنهم أحداث.

توقفت عن القراءة يومها ورحت أتحدث إلى زملائي بحرية أكبر. وبدأت أسألهم عن أسباب قيامهم بجرائمهم. وأخذ البعض يتقرب مني لـ"أورثه" ما سأتركه من طعام ومن ثروة مائية ومن ثياب و"شامبو" وصابون، فيما راح البعض يطلب مني إيصال رسائل إلى أقرباء توقفوا عن زيارتهم منذ شهور أو سنوات طويلة. منهم واحد كتب رسالة مليئة برسم قلوب تخترقها أسهم وتتطاير من جنباتها الدماء. وكتب فيها بلغة شديدة الركاكة عبارات تعبر عن حبه واشتياقه، وطلب من حبيبته في ختام رسالته أن تنتظره وأن تطلب من أهله أن يزوروه وأن يأتوه بعلب سجائر.

آخر أعطاني رقم هاتف عائلته لأطلب من أمه أن تزوره. وثالث أعطاني رقم هاتفه لأنه سيخرج قريباً ويريد لقائي لنصير أصدقاء ونتذكر الأيام التي قضيناها معاً في غرفة واحدة.

ويوم خروجي وزعت أغراضي وثروتي على الجميع، حتى على أولئك الذين لم يطلبوا، بسبب قلة احتكاكي بهم، أو لأنهم ليسوا في مواقع قوة تسمح لهم بهكذا طلبات.

لكني، ما إن وطأت قدمي العالم خارج حدود السجن، حتى أصابتني حالة من الإحباط. وقررت أن أقوم بشيء أرمي به، وبسرعة كبيرة، كل ما يذكرني بهذه الأيام التي كنت فيها غريباً عن نفسي. كنت أريد أن أفعل شيئاً أقتنع بعده أنني شفيت مما أصابني. رميت الأوراق التي أعطاني إياها أصدقائي، ودخلت سيارة خالي الذي كان ينتظرني مع أمي وزوج أختي. رحت أراقب السماء التي لم تكن كما تركتها عالقة في شباك غرفة السجن. عرفت حينها أنني أبداً لن أراها جميلة كما رأيتها هناك. وأنني لن أعود الشخص الذي تركته واقفاً عند ذلك الشباك.

لاحقاً، وبعد مرور السنة الأولى، والثانية من بعدها، عرفت أنني لم أصبح ما أنا عليه إلا نتيجة ما صرته في السجن، وأنني، وإذ تغيرت قليلاً أو كثيراً بعد أن خرجته فلأنني تغيرت قليلاً أو كثيراً هناك.

]]>
https://www.mohamadbarakat.com/2004/10/22/%d9%8a%d9%88%d9%85%d9%8a%d8%a7%d8%aa-%d9%81%d8%aa%d9%89-%d9%81%d9%8a-%d8%b3%d8%ac%d9%86-%d8%b1%d9%88%d9%85%d9%8a%d8%a9-%d9%84%d9%84%d9%85%d9%87%d8%a7%d9%86%d8%a9-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%b9%d9%86%d9%81-2/feed/ 0
زياد الرحباني الذي لم يعد لديه ما يعطيه! https://www.mohamadbarakat.com/2004/10/21/%d8%b2%d9%8a%d8%a7%d8%af-%d8%a7%d9%84%d8%b1%d8%ad%d8%a8%d8%a7%d9%86%d9%8a-%d8%a7%d9%84%d8%b0%d9%8a-%d9%84%d9%85-%d9%8a%d8%b9%d8%af-%d9%84%d8%af%d9%8a%d9%87-%d9%85%d8%a7-%d9%8a%d8%b9%d8%b7%d9%8a%d9%87/ https://www.mohamadbarakat.com/2004/10/21/%d8%b2%d9%8a%d8%a7%d8%af-%d8%a7%d9%84%d8%b1%d8%ad%d8%a8%d8%a7%d9%86%d9%8a-%d8%a7%d9%84%d8%b0%d9%8a-%d9%84%d9%85-%d9%8a%d8%b9%d8%af-%d9%84%d8%af%d9%8a%d9%87-%d9%85%d8%a7-%d9%8a%d8%b9%d8%b7%d9%8a%d9%87/#respond Thu, 21 Oct 2004 15:24:08 +0000 http://www.mohamadbarakat.com/?p=258 كان كل شيء مرتباً ليوحي بالأبيض والأسود في قصر الأونيسكو يوم الأحد الماضي. والمناسبة احتفال بالذكرى الثمانين لتأسيس الحزب الشيوعي اللبناني. لذلك، فإنّ معظم الذين حضروا الحفل إنما جاؤوا لمشاهدة زياد الرحباني بالأبيض والأسود، مثل فيلم قديم، أو مثل مسرحياته القديمة. وبدا أنّ زياد، الذي قلما يقترب من جمهوره، كان يريد أن يظهر بتلك الصورة القديمة. وحدهم المستمعون كانوا ملونين، مثل فيلم جديد، أو أغنية لنانسي عجرم. هم المتفرجون على الأرجح، لأن معظمهم جاء ليشاهد زياد لا ليسمعه. لكنهم، رغم صغر أعمارهم، كانوا يلبسون الكوفيات نفسها، وقبعات غيفارا نفسها، التي كان يلبسها من هم أكبر سنا، أصدقاء خالد وزياد وزملاء دربهما الذين حضروا أيضا.

والشبان المذكورون تعرفوا على زياد فقط من أشرطة الكاسيت التي سجلت عليها مسرحياته وأغنياته. وأغلب الظن أنهم لم يشاهدوا ولو مسرحية واحدة من مسرحياته. وهم جاؤوا يومذاك ليسقطوا صورته على الصوت المركون في آذانهم، ليؤلفوا مشهدا زياديا خاصا بهم. مشهد أسطره (من أسطورة) أولئك الشبان في غياب الصورة. وهم، حين جاؤوا، حملوا في دواخلهم ولاء أعمى لذلك المشهد، حتى قبل أن يلتصق ويتألف. لذلك، كانوا مستعدين للإستماع لأي شيء يقوله، ولأن تضحكهم أي نكتة يقولها، ولو كانت قديمة، كما الكثير من النكات والتعليقات التي ساقها، فبدا الغبار سميكا على حروفها، وكأنها خارجة من الحرب منذ دقائق.

كان يكفي أن يقول "سعيدة" ليغرق المتفرجون في الضحك دقائق. لكن ما هو المضحك في "سعيدة" يقولها زياد الرحباني لجمهور غير هذا الجمهور؟ لا شيء. إلا أنّ هذا الجمهور تحديداً كان مستسلماً لسطوة زياد استسلاما أعمى، غير قادر على التمييز بين "المضحك" والثقيل الوطأة، وبين النكتة الجديدة المعاصرة، المتصالحة مع الحاضر اللبناني والعالمي، وبين الـ"قديمة"، التي لا شك أنّ المتفرجين كانوا سيوجهونها لأي آخر ألقى النكتة نفسها. مثل النكتة التي راح يؤلفها عن العلاقة القديمة بين "الأب" السوفياتي و"الابن" الأوكراني، ليشير من بعدها إلى أنّ "الأوكران ما عادوا يأمنوا للسوفيات، ليك ليك ملا آخرة". فبأي مقياس تدفع هذه النكتة للضحك الكثير والمتواصل الذي غرق فيه نحو ألفين من المتفرجين.

من خلال مقاطع قرأها كل من ليال ضو ورضوان حمزة، وداليا القاضي، من نصوص كتبها زياد، أو ألقاها عبر أثير "صوت الشعب"، نستطيع أن نرى أن "أسطورة الحفل" عن قصد أو عن غير قصد، إسترسل في لعبة تأليهه، هو نفسه. أي لعبة اصطياد زياد من الصورة المنمطة التي بدا منتشيا بالظهور من خلالها. فلماذا يقرأ أحد ما مقاطع من نصوصه في حضوره؟ ما المبرر ما دام هو قادراً على قراءتها؟ ألا يسمح له موقعه بقراءتها؟ أم أنه أصبح في موقع من التكريس بحيث بات صعباً عليه أن يعيد قراءة ما عفاه الزمن؟ وإذا كان الحال كذلك فلماذا لا يقول شيئاً جديداً يسهل عليه قوله؟ هل لأن لا شيء جديد يضيفه؟ هل أصبح زياد عجوزاً مثل الحزب الذي يحتفل بثمانينه؟

قد تكون الإجابة عن كل ما سبق: نعم. وقد تكون: زياد يريد أن يبعث برسالة مفادها أنّ هذا الحزب قديم جداً، وأن ما يربطه به هو "هذا القديم"، فقط. وذلك من خلال الأبيض والأسود اللذين صبغ بهما الأمسية، في أغنيات "أنا مش كافر" و"صيري إنت الجماهير". أما الأغنية الوحيدة التي كانت جديدة: "أكثر من أي زمان هيدا زمانك"، التي غناها خالد الهبر لـ"الأجيال الجديدة"، فقد بدت قديمة أيضا، في مخاطبتها لـ"حزب الناس الموعودين" ومن خلال تقديمها مصطلحات مثل "كل ال ما عندن طوايف واللي ع المستقبل خايف". قديمة قدم "الحزب".

بدت تلك الجلسة كأنها مصنوعة لتكون بين إثنين فقط، خالد وزياد، في منزل أحدهما، يروحان يتذكران فيها الأيام الغابرة. لكن السهرة، إذ أحاط بها ألفان من عشاق زياد، بدت مثل من يتشبث بشيء يبتعد. مثل حالة الحزب الأحمر، الذي لم يعد لديه عمل سوى إحياء الذكريات، من "جمول" إلى "عيد ميلاده" إلى حصرايل إلى غيرها. ووقع هذه المرة زياد القليل الظهور، في فخ الحزب القديم، فخ الحنين. وكان المتفرجون ينتظرونه ليغرقوه أكثر، في كل فاصل بين أغنيتين، إذ يهتفون: شيوعي.. شيوعي.. شيوعي، إلى أن تبدأ الأغنية التالية.

]]>
https://www.mohamadbarakat.com/2004/10/21/%d8%b2%d9%8a%d8%a7%d8%af-%d8%a7%d9%84%d8%b1%d8%ad%d8%a8%d8%a7%d9%86%d9%8a-%d8%a7%d9%84%d8%b0%d9%8a-%d9%84%d9%85-%d9%8a%d8%b9%d8%af-%d9%84%d8%af%d9%8a%d9%87-%d9%85%d8%a7-%d9%8a%d8%b9%d8%b7%d9%8a%d9%87/feed/ 0
يوميات فتى في سجن رومية للمهانة والعنف والذكوري (1) https://www.mohamadbarakat.com/2004/10/21/%d9%8a%d9%88%d9%85%d9%8a%d8%a7%d8%aa-%d9%81%d8%aa%d9%89-%d9%81%d9%8a-%d8%b3%d8%ac%d9%86-%d8%b1%d9%88%d9%85%d9%8a%d8%a9-%d9%84%d9%84%d9%85%d9%87%d8%a7%d9%86%d8%a9-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%b9%d9%86%d9%81/ https://www.mohamadbarakat.com/2004/10/21/%d9%8a%d9%88%d9%85%d9%8a%d8%a7%d8%aa-%d9%81%d8%aa%d9%89-%d9%81%d9%8a-%d8%b3%d8%ac%d9%86-%d8%b1%d9%88%d9%85%d9%8a%d8%a9-%d9%84%d9%84%d9%85%d9%87%d8%a7%d9%86%d8%a9-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%b9%d9%86%d9%81/#respond Thu, 21 Oct 2004 08:11:45 +0000 http://www.mohamadbarakat.com/?p=216  في شهر آب من العام 2001، من دون علم والدي، ركبت سيارته وقدتها في رحلة كادت أن تكون الأخيرة. كنت مسرعاً حين حاولت تجاوز سيارة تبطئ في سيرها. وما إن خرجت عن مساري لأتجاوزها، حتى باغتتني سيارة مسرعة من الاتجاه المعاكس، فزدت من سرعتي وعدت إلى مساري حيث كان يقف رجل إلى جانب الرصيف، فصدمته صدمة عنيفة قتلته بعد ساعات قليلة من وصوله إلى المستشفى.

كنت فتى في السابعة عشرة من عمري. انتابتني حالة هستيرية فيما أنا أتصل بوالدي هاتفياً لإبلاغه بالحادثة، فحضر على الفور. وحين وصل رجال الشرطة إقتادوني إلى سيارة تابعة لهم، فيما حاول أخي الأكبر إقناعهم بأنّه هو من كان يقود السيارة، لأنّه كان يحوز رخصة سوق سيارة.

لكني أصريت على أنني أنا من كان يقود السيارة.

هذه الأسطر شهادة عن الحادثة ومدة الشهر التي أمضيتها في سجن رومية للأحداث.

 

الطريق إلى سجن رومية مليئة بالريبة والعرق، والدخان الكثيف الذي راح يتصاعد من أفواه جميع الموقوفين، جاعلاً من الشاحنة الصغيرة التي نقلتنا من نظارة بعبدا غيمة متنقلة خنقتني على مدى أكثر من ساعة كانت دهراً في رئتي.

عشرون فتى ورجلاً رصفنا في تلك الشاحنة، المعدة لعشرة على أبعد تقدير. ولكثرة تعرقنا راحت تتحول إلى فرن بشري، نتيجة هندستها المتآمرة مع شمس آب الحارقة، فاستطاع بعضنا أن "يزحّط" من يديه الأصفاد الحديد، تلك التي لم تفارق معاصمنا حتى دخولنا باحة السجن الداخلية. هناك أجبرنا على خلع ثيابنا كلها أمام أنظار السجناء ونظراتهم المستغربة، فيما راح بعضنا يقوم آلياً بما طلب منّا، حتى قبل أن يطلب الشرطي ذلك. أولئك الذين اكتشفنا لاحقاً أنّهم "سوابق"، أي أنهم يدخلون السجن للمرة الثانية على أقل تقدير، إن لم يكن للمرة الرابعة أو الخامسة.

كنت واحداً من الذين تخلّصوا من القيود سراً. كانت لحظة جميلة. أحسست حينها اني تغلبت على السجان، الذي بدأ عقلي ينمّطه في صورة وحيدة. كأنني خرجت من سجني حين هربت من الأغلال للحظات قليلة. لكن أحد السجناء "السوابق" حذرنا من انطواء الأمر على عقوبة كبيرة، وعلى أيام في "الإنفرادي" الذي عرفنا لاحقاً أنّه السجن الإنفرادي، كابوس كل سجين، فأعدنا الأصفاد إلى أيدينا بسرعة خائفة.

العنف المادي والمعنوي

الأيام الثلاثة الأولى، التي أمضيت منها ليلتين في مخفر المنطقة وثالثة في نظارة بعبدا، كانت أشبه بكابوس. لكنها كانت طازجة. ربما لأني لم أكن استوعب ما يجري معي حتى تلك اللحظات. فالجميع كانوا يؤمون المخفر لرؤيتي وطمأنتي. كما أنّ الكثيرين سمح لهم برؤيتي في بعبدا، ما أخرجني من ذلك القبو الذي يسمونه سجناً لأكثر من ساعتين مجتمعتين في اليوم الذي قضيته هناك. فـ"ثقافتي" كسجين لم تكن تتعدّى أكثر مما جمعته في ذاكرتي من خليط الأفلام المصرية والأميركية. وضعوني في طابق تحت الأرض أشبه بوكر جرذان.

في سجن المخفر، تختلط رائحة التعفن المنبعثة من الفرش الممزقة، بالروائح الآتية من الحمام الذي لا يبعد عن واحد من الفرش أكثر من متر ونصف المتر. وتسمية "حمام"، التي تختلط في الذهن بالبلاط والمرحاض والمغسلة و"البانيو"، لا تعدو كونها ذكرى مترفة هنا. فحمام المخفر عبارة عن فتحة في الأرض يعلوها صنبور صدئ. لا باب للحمام في الغرفة التي لا تتعدى مساحتها عرضاً المترين والأربعة إلى خمسة أمتار طولاً.

منذ اللحظات الأولى في هذا السجن التحضيريّ، الذي كان يشاركني فيه شاب عشريني، تملكني إحساس بأنّ فترة عقوبتي بدأت منذ الآن، وبأنّ ما يقال عن "البراءة حتى تثبت الإدانة" ليس سوى قول آخر أفرغه ما يحصل معي من مضمونه، لأنّ جميع القيمين على الاماكن التي مكثت فيها سجيناً أو محتجزاً، يعاملون المحتجزين على أنّهم حثالة المجتمع ورائحته النتنة.

أذكر أنّه حين أرسلوا بطلبي لإخضاعي لفحص الإيدز، خفت من الإبرة المفتوحة، بسبب ما جمعته من حملات التوعية المدرسية ضد الإيدز. فسألت من كان يقوم بالفحص إذا ما استعمل الأبرة أحد قبلي، فأجابني: "ما دمتم تفهمون ولستم حميراً، ما الذي يأتي بكم إلى هنا؟". شعرت حينها أنني حشرة صغيرة تدور حول رأس هذا الرجل الذي قد لا يكون سوى طبيب مسجون. أحسست أنني لم أعد أساوي سوى كلمة "محبوس"، مقرونة في لا وعي الجميع بمصطلحات مثل الإجرام والدونية وعدم الأهلية العقلية أو الاجتماعية، وغيرها من الكلمات التي يقصدها الناس حين يقولون هذه الكلمة المهينة: "محبوس".

المخفر الذي احتجزت فيه يقع في مبنى معدّ للسكن وتسكنه عائلات كثيرة. كأن المخفر أقيم في شقة صغيرة في طبقته الأولى، للضرورة، وعلى عجل. وفي إحدى الغرف التي أعدّت لتكون غرفة نوم ربما، أو صالونا، سجنت يومين اثنين. كان يفصلني عن الخارج باب أسود. وكان يضحكني تذكري أنني محتجز في غرفة معتمة في إحدى الشقق السكنية. حينها كنت أتذكر وعيد أمي، في طفولتي، بأن تحتجزني في غرفة مظلمة وتقفل الباب عليّ إلى الأبد. وكان ذلك الشعور يعاودني كلما شعرت بالخوف: أن أبقى محتجزاً بين جدران أربعة إلى الأبد. وكنت أسأل كلّ من يزورني، وهم عشرات في اليوم الواحد: هل سيشنقونني؟

 

الخطيئة والرقص

هناك، في تلك الغرفة المظلمة، عرفت بأنّ الرجل الذي صدمته توفى. وعرفت أنني لن أخرج بعد أيام قليلة كما اتفق كثيرون على إيهامي. عرفت أيضاً، وفي حينها كنت متأكداً، أنني سأمضي ما تبقى من شبابي وراء جدران أربعة على أقل تقدير، إن لم أشنق.

كان منظر الحادثة يعبر في رأسي كالألم. عشرات المرات في اليوم الواحد، في نومي وفي صحوي. وكنت أنتظر عدالة السماء لتنفذ حكمها الإلهي في جسدي، الذي أخذ يقرفني ويخيفني تذكري أنه يلبس الخطيئة الكبرى: القتل. جسدي الذي سريعاً راح يكبر في الأيام اللاحقة بسبب العادة الجديدة التي شغلتني عن الخوف وعن التفكير بالأسوأ: الأكل المتواصل لما كانت تأتيني به أمي يومياً، وبسبب توقفي عن ممارسة رياضتي اليومية، وتوقفي عن الرقص الذي كنت أمارسه يومياً.

لقد كنت أعمل راقصاً في إحدى فرق الرقص التعبيري قبل أن أدخل السجن وأفقد رغبتي في الرقص. كأنني رميت توق جسدي للتمايل في مكان الحادثة، حيث رأيت الرجل الذي دهسته يتمايل برقصة موته على أنغام صراخي. وفقدت كذلك رشاقة جسدي، تلك الرشاقة التي راحت تبتعد رغم محاولاتي اليائسة لانتشالها بالمشي في طول الغرفة وعرضها، وحين نزلت لأكثر من أسبوعين مع 28 سجيناً آخراً من الذين كنت أراهم، مثلما تعودت أن أراهم، حثالة المجتمع، قبل أن أصير واحداً منهم، وعرفت أنّهم جاءوا إلى السجن لأنهم أخطأوا كبشر، لا لأنهم حيوانات أو حثالة يجب رميها في أقرب مستوعب للنفايات.

بعدما رحلت من نظارة المخفر إلى نظارة بعبدا، بدأت رحلة التأقلم مع واقعي الجديد. رحت أقنع نفسي بوجوب التعود على السجن، لأنني سأمضي فيه بقية حياتي. حينها فقط بدأت أتعرف إلى زملائي السجناء، الذين كان لهم الفضل الأكبر في عدم انهياري.

بعد أن نجحت "الواسطة" في نقلي إلى سجن الأحداث لأنه "أكثر راحة"، على ما قال لي قريبي الذي يعمل في قصر العدل في بعبدا. ركبنا تلك الشاحنة التي أوصلتنا إلى رومية، حيث قسمنا بين محكومين وموقوفين وأحداث.

توقعت حينها أن يعطى كلّ منا غطاء وزيا موحدا كما في الأفلام السينمائية التي كانت الأساس الوحيد لمقارنة ما يحصل معي ببعض من التوقعات، وهي كانت تخطئ في غالب الأحيان.

بعض السجناء، الذين يقومون بعمل النظّار هناك، قادوا كل منا إلى المبنى الذي يجب أن يقضي فيه فترة عقوبته أو توقيفه التي أحسب أنني كنت الوحيد الذي لا يعرف كم ستكون. لقد كنت موقوفاً احتياطياً، ولم يصدر في حقي حكم، لأن دعوى قضائية لم ترفع بحقي أصلاً.

 

في سجن الأحداث

الأصفاد التي كنا نلعب بها في الطريق فكّت عندما ترجلنا من الشاحنة، وبدأ كل شيء يتغير. فحملت الأغطية التي أتتني بها أمي مع مجمع الحلاوة بالطحينية وعلبة "البيكون" وتبعت ذلك الشاب، الذي عرفنا لاحقاً أنّه مع باقي زملائه النظّار والمسؤولين غير العسكريين عن السجن، من الموقوفين لانتمائهم إلى ميليشيا جيش لبنان الجنوبي. كانوا يمضون مدة عقوبتهم خارج الزنازين، لئلا يبقون فيها وقتاً طويلاً مع غيرهم المسجونين، تفادياً للإحتكاكات بين "المسجونين الوطنيين" و"المسجونين العملاء". ومن هناك دلني ذلك الشاب العشريني إلى الغرفة التي سأسجن فيها.

عندما وطأت رجلي الطبقة الأخيرة من مبنى الأحداث الذي يضم طبقة للمجانين على ما قاله لي كثيرون وعلى ما رأيت بعينيّ، وطبقة أخرى للموقوفين، افترضت أنني أدخل عالماً يشبه كثيراً ما كنت أراه في الأفلام المصرية، ركيزة ثقافتي الضئيلة عن السجون وحياتها.

على الباب استقبلني أحد السجناء، الذي بدا واضحاً أنّه في منتصف العشرينات وليس "حدثاً"، كما يطلق على السجناء الذين لم يتعدوا الثامنة عشرة من العمر. وقد اعتقدت يومها أنني أمام موظف من موظفي السجن. لكنه كان يلبس ثيابا قطنية داخلية، ويفرك شعره، ما يدلّ على أنّه أنهى لتوّه حماما مريحا.

لاحقاً، بعد نحو أسبوع، اكتشفت أنّ ذلك الشاب من أصحاب الحظوة في السجن، والحظوة هناك تعني الإنتقال من زنزانة عادية مع بقية المسجونين، إلى طبقة الأحداث، التي لا تشبه السجن في الشكل، لكنها أسوأ منه في المضمون.

هذا الشاب، الذي قال بعض السجناء أنّه من حراس السجن، فيما أكد آخرون أنّ "واسطته قوية"، "يملك" زنزانة خاصة به، مجهزة بأدوات كهربائية حديثة، منها مروحة وتلفزيون ومسجلة – راديو وبراد وغيرها مما لم أعد أذكره، كما جهّزت غرفته بحمام سوبر ديلوكس، على ما رأيت حين طلبني إلى غرفته ليملي عليّ ما سأقوله للمحققين حين يسألوني لماذا وقعت على الأرض ومن ضربني؟.

كان باب حمامه مفتوحاً يومها، والمروحة تدور من اليسار إلى اليمين وبالعكس، وصوت الأغاني الذي لم أسمعه منذ أسابيع ينبعث من راديو كبير نوعاً ما. ثم طلب مني أن أقول أنني سقطت على الأرض بعد أن تعثرت. لكنني رفضت، فما كان منه إلا أن أستعان بشهود زور، أحدهم كان بدأ يصبح قريباً مني. وطلبت من أمي حين زارتني أن توصل إلى آمر السجن أنّ ذلك الشاب ضربني. فلما عرف بذلك أرسل بطلب ذلك "المحظي" وأمره أن يعتذر مني، ففعل.

 

عرف السجن المصان

في اليوم الثاني من نزولي المؤقت في سجن رومية، زارني أخي مع أمي، وأتوني بأكياس من التفاح والموز والخيار والبندورة، وببطانية جديدة لأنام عليها، وصابونة و"شامبو" للإستحمام، وصندوق من عبوات المياه المعدنية.

افترضت حين أتتني أمي بتلك المؤونة، أنني سأقضي وقتاً طويلاً هناك. وقت من المستحيل معه أن أنتظر لأستحم حين أعود إلى منزلي. وفهمت أنّ الأكل يعني أنني يجب أن أنشئ في زنزانتي مطبخاً بديلاً عن مطبخ بيتنا، ما سمح لي أن ألعب دوراً محلياً وإقليمياً فاعلاً بين السجناء!

وبدأت الهدايا تكثر، وصندوق المياه أصبح صندوقين، ثم ثلاثة وأربعة. وراح رأسمالي يكبر، من الأموال العينية المنقولة، التي هي العملة الوحيدة في السجن، حيث يمنع إدخال الأموال. وراحت تكبر القيمة الإجتماعية والنفوذ اللذين بدأت أتمتع بهما.

في هذه الغرفة حيث عشت نحو شهر من الزمن مع 27 من زملائي، رأيت أنّ 28 شخصاً قادرون على تمثيل المجتمع الإنساني بكامله.

بداية، هناك نظام على الجميع أن يتبعه. فحين دخلت إلى زنزانة "الدخول"، أشار الجميع إلى ورقة ألصقت على الحائط كتبت عليها تعليمات بلغة عربية ركيكة جدا. كلماتها تقول أنّه على الجميع أن يشاركوا في تنظيف الزنزانة يومياً. وأن يناموا "برا بالدور"، أي خارج الغرفة وذلك مداورة، ولهذا قصة أخرى.

فالزنزانة التي سكنت فيها كانت تحتوي على ثمانية أسرة فقط. ما يجبر عشرين منّا على النوم في الممر الخارجي المفتوح على السماء من الجهتين. وعلى أفراد الزنزانة أن يستحموا كل يوم، بأمر من مدير السجن، لمنع انتقال الأمراض، وغيرها الكثير من الأوامر التي تجبر "الحدث" على الرضوخ لأوامر "رئيس" الزنزانة الذي يضع القوانين ويغيرها ويعدلها مزاجياً.

و"الرئيس" هو "الشاويش" بلغة السجن. ليس "شاويشاً" يتبع سلك الشرطة كما في الأفلام المصرية، بل هو "شاويش" مستقل يحكم زنزانته كأي رئيس دولة. وسبيله إلى الحكم هو الأقدمية كما يقول العرف المصان في السجن، لكن القوة بدت هي السبيل على ما رأيت وعلى ما قاله لي كثيرون. هذا الرئيس له صلاحيات ملك، فيصدر الأوامر، ويسهر على فرض احترام رعيته على بقية "شاويشية" الزنازين الأخرى. وله مع هؤلاء الشاويشية علاقات تشبه العلاقات بين رؤساء الدول. وهو يضرب بيد من حديد كل من يعصى أوامره. وله الحق بأخذ ما يريد من الأطعمة وممن يريد. وهو الذي يستلم وجبة المساء التي تتألف من صحن لبنة أو جبنة أو حلاوة أو مربّى، ويوزعها على البقية بعد أن يشبع أو يشفق على أصحاب النظرات الجائعة. و"رئيس" زنزانتنا كان سوري الجنسية، دخل السجن بتهمة سرقة دراجات نارية، وهو اعترف بما نسب إليه على ما قال لي. وكان ممنوعاً على أحد أن يناديه باسمه، كما ملزمين بمناداته "يا شاويش". وكان شهماً نسبياً، لأنه، هو القوي البنية، وإن كان يضرب رعاياه بيد من حديد، فإنّه لا يسمح لأحد من الزنازين الأخرى أن يمسهم بسوء.

أما عن كيفية وصول نزلاء الزنازين الأخرى إلى زنزانتنا، فذلك سببه فتح إدارة السجن أبواب زنازين الأحداث من الصباح حتى ما بعد الظهر. وقد يكون سبب ذلك هو الاعتقاد بأنّ الأحداث لا يستطيعون الهرب بسبب قلّة خبرتهم أو جبن يعود لصغر سنهم، أو لأن أحكامهم لا تستدعي من أحد أن يفكر بالهرب. وعلى ما سمعت وخبرت أثناء إقامتي في رومية، فإنّ الأحكام التي تصدر في حق "الحدث" تكون أكثر رحمة من تلك التي تصدر بحق البالغ، الأمر الذي أكده أحد المحامين قائلاً بأن "الحدث لا يشنق". قال لي أحد السجناء أنّ "الحدث" القاتل لا يشنق بل يسجن لمدة سبع سنوات، وذلك الذي يقتل داخل السجن لا يسجن إلا سنتين، لكن القانون يترك ذلك "رهنا بأسباب القتل"، على حد قول ذلك المحامي. وكان ذلك الحديث مشتقاً من تهديد أحد "الشاويشية" لأحد نزلاء زنزانته بالقتل إذا هو لم يدفع الخوة المفروضة على الجميع من دون استثناء، والمؤلفة من عدد من السجائر التي يستطيع ذلك السجين تقديمها.

 

]]>
https://www.mohamadbarakat.com/2004/10/21/%d9%8a%d9%88%d9%85%d9%8a%d8%a7%d8%aa-%d9%81%d8%aa%d9%89-%d9%81%d9%8a-%d8%b3%d8%ac%d9%86-%d8%b1%d9%88%d9%85%d9%8a%d8%a9-%d9%84%d9%84%d9%85%d9%87%d8%a7%d9%86%d8%a9-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%b9%d9%86%d9%81/feed/ 0
السينما ترفد رواية "كباريه سعاد" لمحمد سويد https://www.mohamadbarakat.com/2004/10/11/%d8%a7%d9%84%d8%b3%d9%8a%d9%86%d9%85%d8%a7-%d8%aa%d8%b1%d9%81%d8%af-%d8%b1%d9%88%d8%a7%d9%8a%d8%a9-%d9%83%d8%a8%d8%a7%d8%b1%d9%8a%d9%87-%d8%b3%d8%b9%d8%a7%d8%af-%d9%84%d9%85%d8%ad%d9%85%d8%af/ https://www.mohamadbarakat.com/2004/10/11/%d8%a7%d9%84%d8%b3%d9%8a%d9%86%d9%85%d8%a7-%d8%aa%d8%b1%d9%81%d8%af-%d8%b1%d9%88%d8%a7%d9%8a%d8%a9-%d9%83%d8%a8%d8%a7%d8%b1%d9%8a%d9%87-%d8%b3%d8%b9%d8%a7%d8%af-%d9%84%d9%85%d8%ad%d9%85%d8%af/#respond Mon, 11 Oct 2004 15:41:51 +0000 http://www.mohamadbarakat.com/?p=265 كثيرة هي الأفلام التي تخرج من ضلوع الروايات، العربية منها وغير العربية، كما رواية "باب الشمس" للروائي اللبناني الياس خوري، التي شارك خوري في كتابة سيناريو فيلمها كل من المخرجين، محمدسويد ويسري نصرالله. هكذا درجت العادة، أن تكون الرواية رافداً من روافد السينما. لكنّ محمد سويد، في روايته الأولى "كباريه سعاد" (الصادرة حديثاً عن "دار الآداب" بيروت) قلب الطاولة بأن كتب رواية خارجة من ضلوع السينما، فجعل من السينما رافداً لروايته، ليست الرافد الوحيد، إنّما هي أحد أهم روافد القصة التي تدور أحداثها في بيروت الحرب. والحرب هنا ليست القذائف والرشاشات والشهداء والصور الملتصقة بالجدران، إنها الحرب التي تمر بين الحروف مثل فيلم سينمائي طويل. الحرب كما يراها سويد بعيني كاميراه.
والسينما التي ترفد رواية سويد ليست سينما الفنون البصرية. إنّها أقرب ما تكون إلى صورة السينما في ذاكرته ومخيلته. فهو ولد في السنة التي ولدت فيها سعاد حسني، في العام 1959. وقبل 9 أعوام من شروعه في كتابة سيرته، هجرت سعاد السينما وانكفأت. وهو يؤرخ لأصدقائه في الرواية بأفلام شاهدها معهم، أو تعرف إليهم، ويروي أحداثاً متقطعة من حياته كما هي متقطعة الفترات التي شاهد فيها أفلاماً عالقة بذاكرته.
ويفرز سويد أظفار هذه الذاكرة السينمائية في الأحداث التاريخية العامة التي يحيلها إلى علاقات تربطه، هو، بالأشياء. فيقول عن الحرب: "أعللها تارة باغتيال معروف سعد، وتارة أخرى بمجزرة البوسطة في عين الرمانة. في تقديري أنّ الحياء يمنع مؤرخيها من إحالتها على انتصاب شمس البارودي بلوحتها الإعلانية الخشبية، حيث وقفت بكال ساقيها.." (ص. 67-68). الحرب بدأت هكذا إذاً. بدأت في السينما. واستمرت في السينما. وهو يكتبها اليوم بالسينما، لغة ومضموناً.
ويقول في مكان آخر، أنّه استمنى للمرة الأولى بعد مشاهدة فيلم "فوكسي براون" لـ"معبودة مناماتي بام غرير". الحرب ليست الشريط الوحيد الذي تكر أحداثه في بكرات. طفولته يقيسها بالسينما، كذلك شبابه والجنس الذي مارسه مع دنيا وسيسيل.
نحن أمام مهووس بالسينما، يريد أن يجعل من الرواية حقلاً آخر من حقول السينما وعلومها البصرية. يريد أن يدخل السينما إلى داخل الرواية، أو ربما فعل ذلك بتأثير من ثقافته وحياته السينمائيتين. وهو يستعمل لذلك الهدف نوعاً جديداً من الكتابة، المتأرجحة بين الجد والهزل، مثل قوله: "يكفيني ما ورثته من فرويد وعقدة أوديب وأديبة وذريتهما" (ص. 34)، و"فليحمد جاك شيراك ربه بكرة وأصيلاً على شطب دوره من قائمة أبطال الفيلم (كان يقوم بتصويره) وممثليه المساندين" (ص. 64). كأنّه بتلك الكتابة التأجرحة ينقل ارتباكه وتأرجحه بين رواية الأحداث وسردها، وبين الكتابة "عن الأحداث" ومقارنتها بأحداث أخرى تربط بالسينما في أبطالها وأماكنها وأزمانها.
وهو يسترسل في نمطه الكتابي الجديد، لكن الدافع للقراءة، ربطه لحدثين أحدهما بالآخر بطريقة غير مألوفة، كأن يقول: "سينما الحمرا" افتتحت في 6 تشرين من العام 1957، ولا علاقة لها بذكرى 6 أكتوبر. نقطة على السطر. أو كأن يعود إلى أسلحة الدمار الشامل العراقية التي لم يظهر لها أثر، في معرض حديثه عن جاك شيراك، الذي يريد إشراكه في فيلمه الذي لم ينفذ. ما يجعل قراءته أكثر سهولة، وقارئه أكثر اندفاعاً للاستمرار في القراءة. وإذا كان الخيار بين مشاهدة فيلم أو السهر قبالة التلفزيون وبين قراءة كتاب، غالبا ما تكون الغلبة لصورة على الحرف، لكن مع سويد ينتصر الحرف لأنه يحمل الصورة السينمائية وليس التجريدية، إضافة إلى الحرف.
يلعب سويد باللغة كأنه ينتقل بالكاميرا من زاوية إلى زاوية حينا، وبـflash back أحيانا أخرى. يمكن القول أنّ روايته لم تنجُ من المخرج السينمائي الذي بداخله، ولا من الطريقة التي يريد أن يسرد بها الحوادث لو كانت الكاميرا هي أداته بدلاً من الحرف والكلمة. وفي انتقاله هذا مزيج من "الشقاوة" الشخصية ومن عدم قدرته، كـ"ملك السيكس"، على الكتابة كما يفترض بها أن تكون. كما أنّه لم يحي حياة كما يفترض برجل عادي أن يحيا في ظروف عادية ومع أناس عاديين. إنّه يكتب حياته، يفلشها على الورق، و"ينشر غسيله الوسخ"، بحسبه.
وفي نشره هذا الغسيل تكمل المتعة الخالصة، وليس في الكتابة بأسلوب منمق عن حب يتوهج على خط التماس. وهو يسحب اللغة من ألسنتنا. لغتة حية وليست لغة الكتابة، كما هي الكتابة خارج روايته.
وإذ تخرج الحرب من عيني كاميرا سويد، فإنها تملأ ثقوباً في ذاكرتنا، نحن أطفال الحرب الذين لا نذكر منها إلاّ الملجأ والرعب في عيون من هم حولنا. كأن يعرفنا على سينما اندثرت حتى قبل أن نولد، وسار هو إلى جانبها قبل أن نتعم المشي. وهو بذلك يستبق "عجز الماضي عن الحد من استحالة الناس صوراً وكلمات تنتظر من يؤويها ويقيها شر الزوال" (ص. 101). إنّه يؤوي الكلمات والأحداث لنتعرف عليها، نحن من لم نعش الحرب ولم نعرف من صورها إلا القليل القليل.
في أماكن أخرى، يسرد البطل أحداثاً غير متفق عليها تاريخياً، من دون أن يبقى على مسافة "روائية" من شخصياته. كأن يقول أنّه رمى رشاشه في الزبالة قبيل دخول القوات الإسرائيلية، كما فعل الجميع. لا شيء يؤكد أن ذلك ما فعله الجميع. إنّه يقول ما يريد، انطلاقاً من أنّه يروي ما في رأسه وما يشعر به لا ما حصل فعلا.
وهو إلى تأريخه للأحداث بانتقائية، يؤرخ للغة أيضاً، ما قوله "شو جاب الطز للمرحبا" (ص. 86). أو "مسكينة سعاد، ماتت غلبانة" (ص. 109)، مستخدما اللهجة المصرية، أو "god damn it" (ص.60)، للتعبير عن غضبه أثناء الكتابة. كما تغدو اللغة في روايته للأحداث شبيهة بالأحداث نفسها، كما حين يصف نفسه بـ"ملك السيكس والكورنفليكس".
لسنا هنا أمام راوٍ يلقي القصة من فوق، نحن أمام متحدث يمد جسراً لغوياً مع القراء كلهم، وليس مع نخبتهم. كأن يقول عن جعفر زورو، أحد شخصيات قصته: انطونيو زورو أو جعفر بانديراس.

]]>
https://www.mohamadbarakat.com/2004/10/11/%d8%a7%d9%84%d8%b3%d9%8a%d9%86%d9%85%d8%a7-%d8%aa%d8%b1%d9%81%d8%af-%d8%b1%d9%88%d8%a7%d9%8a%d8%a9-%d9%83%d8%a8%d8%a7%d8%b1%d9%8a%d9%87-%d8%b3%d8%b9%d8%a7%d8%af-%d9%84%d9%85%d8%ad%d9%85%d8%af/feed/ 0